الفراغ الفكري والتمسك بقشة الموت

الفراغ الفكري والتمسك بقشة الموت

محمد أرسلان
ننتظر معجزة إلهية تنتشلنا مما نحن فيه أو مما وقعنا فيه من جب عميق بلا قاع، نحفر بأظافرنا قعر الجب علَّنا نخرج منه، متناسين أننا نغوص أكثر فأكثر نحو الأعمق والأسفل والعتمة التي هي الجهل بحدِ ذاتها. “محكومون بالموت مع وقف التنفيذ”، قالها أمين معلوف في روايته (التائهون)، نعيش ما بين الحياة والموت، ما بين الحرب والسلام، المستقبل بقناع الماضي. نعيش كما ألفينا عليه آباءنا المتصارعين ما بين الشرق والغرب وما بين الدين والقوموية، حتى بتنا كخراف تنتظر جزارها لتكون ضحية لهذا التيار أو ذاك. المهم أننا ضحية أو قرانًا لهذا الفكر أو ذاك ولهذا الحلف أو ذاك.

وبين هذا وذاك ما زلنا نتصارع فيما بيننا على أن كل طرف يمثل الحقيقة والآخر هو الكافر والعميل والخائن. ثنائيات باتت جزءًا من شخصياتنا وتكويننا الفكري الهزيل المبني على علوم المستشرقين الخواجة الذين يسبقوننا بسنوات ضوئية في علومهم ومعارفهم، كما نحن نتخيلهم. مستشرقين كتبوا لنا تاريخنا وعلومنا ودساتيرنا وشكلوا أوطاننا ورسموا أعلامنا، وأوهموننا أنه لا بدّ من برلمان كي نكون ديموقراطيين. برلمان شبيه بحلبة المصارعة الاسبانية أو كما يسمونه بـ (كولوسيوم) يتصارع فيه العبيد لحساب الملوك ولتكون المصارعة احتفال سنوي لا جديد فيه صوى أن العبيد يتصارعون ليفوزوا بحياة وهمية حتى جولة أخرى لا أكثر.

اختزلوا الديمقراطية بانتخابات برلمان العبيد والذي يستمر حتى راهننا بنفس الجوهر والوظيفة ليسن لنا تشريعات وقوانين ليس لها علاقة بواقع الحياة للشعوب والمجتمعات. تناسوا أن الديمقراطية ثقافة واحترام الآخر وقبوله كما هو وليس كما أنا أريد، وهكذا وصلنا لمجتمع متنمل استهلاكي مخصي ينتظر العناية الإلهية لتخلصه مما هو فيه. من هنا كانت بدعة المخلص والمهدي المنتظر الذي سيأتي ليخلصنا من الظلم الذي نحن فيه. أي علينا فقط الانتظار. وهنا تكمن اللعبة الحقيقة التي وقعنا فيها كي لا نعمل ونجتهد ونتعلم لنخرج أنفسنا بأيدينا من الجهل الذي نحن فيه. بل علينا أن ننتظر الآخرين كي يخلصونا، ونقع في فخ الاتكالية والانتظار وقبول العبودية لأننا نؤمن بأن المخلص سيأتي يومًا ما.

متى ما تخلصنا من هذه العقدة التي أصبحنا أسرى لها حينها سنتحرر من الكثير من الموروثات التي كانت تكبلنا وتمنعنا من مقاومة الجهل. بالعلم والمعرفة والإصرار وحده يمكننا القضاء على الجهل والاعتماد على الذات، التي هي القوة الجبارة التي لا تعرف المستحيل. حينها ففقط نعرف حقيقتنا وحقيقة العدو الذي نصارعه والذي يمكننا كشف حقيقته الزائفة التي يختفي وراءها.

كثر ٌ هم هؤلاء الذي يختفون وراء أقنعتهم التي تتستر على زيف ونفاق هؤلاء الأشخاص الذين جعلوا من ذاتهم سلاطين على الشعب، ولكن حقيقتهم أنهم ليسوا إلا دُمى تتحرك وفق ما يُقال لهم أو الوظيفة التي تم توكيلها لهم.

ثنائيات مثلها كمثل الهويات القاتلة لأمين معلوف، لا يمكن الاعتماد عليها لبناء الانسان ولا حتى المجتمعات وكذلك الأوطان. البحث عن الهويات الجامعة هو السبيل الوحيد للخروج من مستنقع الاقتتال الطائفي والمذهبي والإثني الذي نغرق فيه يومًا بعد يوم. بيروت هي ضحية تلك الثنائيات والهويات القاتلة، كما عفرين وترهونة والموصل والبصرة وطرابلس، وغدًا لا نعرف أية مدينة ستكون ضحية هذه الهويات الثنائية القاتلة.

ثنائية المشرق والمغرب ما بين أمريكا وروسيا والصين، الشيعي والسني، حزب الله والاخوان المسلمون، المسلم واليهودي، المطبع والمقاوم. وبين هذه الثنائيات الهوياتية القاتلة يختفي المنافقون السلطويون وراء أقنعتهم ليقنعوا السذج بالتضحية بذاتهم من أجل الوطن والدولة والسيادة، بينما هم يسرقون قوت الشعب والبلاد.

هم نفسهم المنافقون الذين خربوا أوطانهم على حساب شعبهم ليبقوا في السلطة إن كانوا في سوريا أو العراق واليمن وأكثرهم نفاقاُ أردوغان تركيا. لا فرق بين هؤلاء السلطويون إلا اختلاف أسمائهم ولتبقى أفعالهم هي نفسها في التخلص من شعوبهم وجعلهم قرابين سلطتهم وأنانيتهم وأوهامهم في الخلود.

فراغ فكري نعيشه بشكل كبير أوصلنا لحالة من الضياع والبحث عن أية فكرة تنجينا من الموت الذي نحن فيه. والبحث عن أفكار في أماكن أخرى ربما لن تنجينا بقدر ما ستجعل مننا خانعين لتلك الثقافة ليس أكثر وكأننا نتمسك بقشة الموت وليست الحياة. ينبغي البحث في تاريخنا العميق ذي الحضارة الضاربة في جذور تاريخ الإنسانية. من جغرافيتنا وتاريخنا وثقافتنا يمكننا بناء حاضرنا والانطلاق به للمستقبل.

الأمة الديمقراطية ربما تملأ الفراغ الذي نعيشه فكريًا في وقت ما زال الآخرين متمسكين بالماضي. فلسفة اعتمد عليها أوجلان لإخراج المنطقة من حالة الفراغ والموت التي تعيشها نحو الانطلاقة القوية لبناء المجتمع الحر المعتمد على أخوة الشعوب والتعايش السلمي. بعيدًا عن المناطحات الطائفية والمذهبية والاثنية التي كانت ولا تزال أكبر أداة حفارة قبور الشعوب. الأمة الديمقراطية التي تحتضن كل القوميات والأديان والطوائف لتتعايش فيما بينها على أساس الاحترام المتبادل، هي على العكس تمامًا من الأمو الدينية والأمو القومجية اللتين تعتمدا على الدين الواحد والقومية الواحدة والعلم الواحد. التنوع هو مصدر القوة لأي مجتمع يتطلع نحو بناء المستقبل، بعكس المجتمع المتجانس الواحدوي الذي لن يكتب له النجاح ولنا في التاريخ عبرة.