عقل الإمام!

عقل الإمام!

بقلم ـ هانى عبد الله :
على هامش المؤتمر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى، الذى عَقَده (أخيرًا) الأزهرُ الشريف بالقاهرة، كان ثمة «كتاب ذبيح» اغتالته صيحات الصائحين، وأيادى المصفقين(!).

.. لم يأخذ الكتاب- يقينًا- حَقّه، بَعد ضجيج «الحالة الجدلية» (لا المناظرة)، التى كان محورها كُلٌّ من: «د. أحمد الطيب» شيخ الجامع الأزهر، و«د. محمد عثمان الخشت» رئيس جامعة القاهرة.. إذ قذفتْ تلك «الحالة» بالإسهام الاجتهادى القائم فى كتاب (نحو تأسيس عصر دينى جديد) إلى منطقة «معتمة» بنهاية المَشهد التجديدى (من دون جريرة كُبرى)..

.. فبين دفتَى الكتاب ما يشهد له «البيان الختامى» للمؤتمر، الذى ألقاه بنفسه فضيلة الإمام(!).

.. أمّا كيف كانت تلك الشهادة، التى لم يلتفت إليها الكثيرون وسط حدة الاستقطاب «غير المبرّر»؟.. فهذا ما ستثبته السطور التالية؛ إذ سنورد التوصية وما يوازيها ضمنًا أو مباشرةً من كتاب «د. عثمان الخشت».

01 – التجديد

أولًا: توصية الإمام: التجديد لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة، لا ينفكُّ عنها؛ لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس.

.. (انظر فى هذا الفصل الخامس من كتاب الخشت: «تجديد المسلمين»، ص: 123 – 148).

ثانيًا: توصية الإمام: النصوصُ القطعيةُ فى ثبوتها ودلالتها لا تجديدَ فيها بحالٍ من الأحوال، أمَّا النصوص الظنيَّةُ الدِّلالة فهى محل الاجتهاد، تتغير الفتوَى فيها بتغيُّر الزمان والمكان وأعراف الناس، شريطةَ أن يجىءَ التجديدُ فيها على ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها العامّة، ومصالح الناس.

.. (انظر فى هذا مبحث: «إشكالية الفجوة بين الإسلام والمسلمين» من كتاب الخشت، ص: 126).

02 – مواجهة الإرهاب

أولًا: توصية الإمام: التيارات المتطرفة، وجماعات العنف الإرهابية يشتركون جميعًا فى رفض التجديد، ودعوتهم تقوم على تدليس المفاهيم وتزييف المصطلحات الشرعية، مثل مفهومهم عن نظام الحُكم، والحاكمية، والهجرة، والجهاد، والقتال، والموقف من مخالفيهم، فضلًا عن انتهاكهم ثوابت الدِّين بما يرتكبونه من جرائم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض.

.. (انظر فى هذا المعنى مبحث: «ضياع المعنى والعقل فى التيارات الدينية المغلقة وحركات ما بعد الحداثة معًا» من كتاب الخشت، ص: 55).

ثانيًا: توصية الإمام: من أُسُس الخَلل الفكرى عند هذه الجماعات التسوية بين الأحكام العقدية وبين الأحكام العملية؛ كاعتبارِ فعل المعاصى كُفرًا، واعتبار بعض المُباحات فريضة واجبة، وهو ما أوقع الناسَ فى حرجٍ شديد وأساءَ إلى الإسلامِ وشريعتِه إساءةً بالغة.

.. (انظر فى هذا المعنى مبحث «الرؤية الأحادية للإسلام» من فصل: «العقل المغلق»، ص: 68).

ثالثًا: توصية الإمام: المراد بالحاكمية عند الجماعات المتطرفة أنَّ الحُكمَ لا يكون إلّا لله، وأن مَن يحكم من البَشر فقد نازعَ الله سبحانه وتعالى فى أخصّ خصائص ألوهيته، ومن نازع الله فهو كافرٌ حلالُ الدّم؛ لأنه ينازع الله فى أخصِّ صفاته، وهذا تحريفٌ صريحٌ لنصوصِ الشريعة الواردة فى القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة.

رابعًا: توصية الإمام: مقاومةُ الفساد والغش والمحسوبية، والتفرقة الجائرة بين المتكافئِين فى الفرص مسئولية دينية، وقانونية، ومجتمعية، وأخلاقية، يُحاسَب عليها كل مسئولٍ فى موقعه، ويجب على جميع المؤسَّسات دعم دَور الدولة فى القضاء عليها لما لهذه الأمور من أثرٍ ضارٍّ على التنميةِ واستقرار المجتمعات.

.. (حول هاتيْن النقطتيْن، انظر فى هذا المعنى متفرقات وخلاصة الفصل السابع: «الحاكم الناجح بين قوانين القرآن وسُنن التاريخ»، ص: 191-213).

03 – الإيمان والعقل

توصية الإمام: الإلحاد خطر يعمل على ضرْب الاستقرار فى المجتمعات التى تقدس الأديان، وتحترم تعاليمها، وهو أحدُ أسلحة الغزو الفكرى، التى يُراد من خلالها- بدعوَى «الحُرية الدينية»- هدْمُ الأديان، وإضعافُ النسيجِ المجتمعى، وهو سببٌ مباشرٌ من أسباب التطرُّف والإرهاب، وعلى المجتمعات أن تتيقظ للآثار السلبية التى تترتب على دعوات الإلحاد، وإنكار وجود الله، وبَلبَلةِ أفكار المؤمنين به، كما يجب على العلماء التسلح بمنهج تجديدى فى التعامُل مع مخاطره تستصحب الأدلةَ العقلية والبراهينَ الكونية ونتائج العلوم التجريبية الحديثة باعتبارِها تؤيد الحقائق الإيمانية، وذلك من خلال الالتقاء بالشباب والحوار معهم، والإفادة من وسائل التواصُل الحديثة فى هذا المقام.

.. (يذهب كتاب الخشت إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يؤسّس من بداية صفحات الكتاب إلى تدشين استخدام العقل وإحكام قيادته فى الوصول إلى الحقيقة الإيمانية، كما فعل نبىُّ الله «إبراهيم» عليه السلام، فى مواجهة غير المؤمنين / راجع فى هذا ص: 29 وما بعدها).

04 – الدولة الوطنية

أولًا: توصية الإمام: الدولة فى الإسلام هى: الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة. والأزهر- ممثلًا فى علماء المسلمين اليوم- يقرِّر أن الإسلام لا يعرف ما يُسمَّى بالدولةِ الدينية، حيث لا دليل عليها فى تراثنا، وهو ما يُفهَم صراحةً من بنود صحيفة المدينة المنورة، ومن المنقول من سياسة رسولنا الأكرم، ومن جاء من بعده من الخلفاء الراشدين، وكما يرفض علماءُ الإسلام مفهومَ الدولة الدينية فإنهم يرفضون- بالقَدْرِ نَفْسِه- الدولة التى يقوم نظامُها على جحد الأديان وعزلها عن توجيهات الناس.

.. (انظر فى التوجُّه ذاته وأكثر: مبحثَى: «من الثورة السياسية إلى الثورة العلمية»، ص: 114 – 118).

ثانيًا: توصية الإمام: الخلافة نظام حُكم ارتضاه صحابة رسول الله- ناسب زمانهم، وصلح عليه أمر الدِّين والدُّنيا، ولا يوجد فى نصوص الكتاب والسُّنة ما يلزم بنظام حُكم مُعين، بل كل نظام من أنظمة الحُكم المعاصرة تقبله الشريعة مادام يوفّر العدلَ والمساواة والحرية، وحماية الوطن، وحقوق المواطنين على اختلاف عقائدهم ومِلَلِهم، ولم يتصادم مع ثابت من ثوابت الدين.

ثالثًا: توصية الإمام: المواطنة الكاملة: حق أصيل لجميع مواطنى الدولة الواحدة، فلا فرقَ بينهم على أساس الدِّين أو المذهب أو العِرق أو اللون، وهو الأساس الذى قامت عليه أول دولة إسلامية، وتضمنته صحيفة المدينة المنورة، وعلى المسلمين أن يعملوا على إحياء هذا المبدأ.

رابعًا: توصية الإمام: من البرِّ الذى دعانا إليه الإسلام تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وما يدَّعيه المتشددون من تحريم هو جمودٌ وانغلاق، بل افتراءٌ على مقاصد شريعة الإسلام، وهو من باب الفتنة التى هى أشد من القتل ومن باب الأذَى لغير المسلمين، وليس فى التهنئة أى مخالفة للعقيدة؛ كما يدّعى المتشددون.

.. (انظر فى هذا المضمون أيضًا الفصل السابع: «الحاكم الناجح بين قوانين القرآن وسُنن التاريخ»، ص: 191-213/؛ خصوصًا مبحث: «المسلم مأمور بالدفاع عن المسيحى وكنائسه»، ص: 176).

05 – سؤال أخير

إن كان ما قال به الخشت- فى مجمله- يخرج من المشكاة نفسها التى خرجت منها توصيات «الإمام الطيب» (مع اختلاف فى بعض منهجيات البحث).. فلماذا كان كل هذا الجدل من حيث الأصل؟

.. الإجابة- قطعًا- فى «عقل الإمام» وحده!.