كتاب واراء

هادي التونسي يكتب: صاحبة الابتسامة الدائمة

تصورت أننا لن نرى مجددا تلك الابتسامة الدائمة من هول ما سمعت عن خمسة عمليات جراحية لتدارك آثار جراثيم عصية أصابتها بغرفة العمليات، و تمكنت من جسدها بعد عملية منظار،فحفرت الجلد، و أكلت اللحم، و خرقت عظام الحوض، فاضطر الاطباء الي اقتطاع أجزاء من الجلد و الأنسجة لإعادة الجسد الي وضع أشبه بالطبيعي.

 

ما هذا الحظ السيئ ! فذلك المنظار كان لمتابعة عملية اخرى منذ سنوات لإزالة بؤر سرطانية في الأمعاء، أوجبت اقتطاع جزء كبير منها، و تلك البؤر بدورها هي مضاعفات لثلاث عمليات أجريت لها في السبعينات لازالة ورم سرطاني بما إقتضي استئصال الرحم حينها. لكن للمفاجأة قابلتنا منذ أيام بابتسامتها المعهودة الفائزة،دونما شكوي أو حسرة أو شفقة علي الذات.

 

إيزابيلا أو كما يسمونها تدليلا إيتسا ولدت في الخمسينات في أسرة فقيرة بمدينة برومانيا ، ضمن الأقلية ذات الأصل المجري ، هي أصغر ثلاثة أطفال، مازالت تتذكر كيف كانت تحضر جردل الماء من صنبور عمومي الي المنزل للاستحمام، فتجده قد تجمد في صقيع الشتاء، و كيف كانوا يشعلون الأخشاب لتدفئ قوالب طوب يضعونها تحت الفراش تدفئة من برد قارس، و كيف كانت تضطر في طفولتها لقطف الفواكه و عش الغراب لتبيعها بما يكفي لشراء حلوي مغلفة للجيب تلهيها لدقائق عن شظف العيش. و كيف مع ذلك العمل البسيط اكملت دراستها الثانوية ، بل و كانت تطمح الي الدراسة بكلية الصيدلة لولا ان أهلها أجبروها أن تكتفي بدبلوم تمريض لقلة ذات اليد.

 

لم يمهلها القدر طويلا من رحلة الكفاح و العمل الشاق؛ فبعد أن تزوجت من سليل أسرة صادر الشيوعيون أموالها، و أنجبت طفلة وحيدة، أصيبت بسرطان الرحم، و أجريت لها ثلاث عمليات فاشلة لإزالته و تدارك الأخطاء،  الي أن وافقت السلطات حينها في السبعينات علي سفرها و زوجها الي النمسا لإكمال العلاج، لكن الزوج أصر علي اللجوء الي النمسا تاركين الإبنة لدي الخالة برومانيا وفقا لقانون السماح بالسفر للعلاج.

 

في النمسا كلاجئين أبقوهما بمعسكر مغلق لأسابيع بالحد الادني من الطعام، ثم نقلوهما الي فندق فقير مهمل لمسنين، فتطوعت بتنظيفه، و أعطوها القليل من المال، لم يغب عنها حلم لم شمل أسرتها، لكن ذلك إقتضي ان يكون لها عملا ثابتا و إقامة، فاقتنصت فرصة للعمل حارسة عقار بحي تسكنه سفارات في ڤيينا، و خصص لها المالك علي غير رغبتها شقة واسعة غالية الإيجار،ففرشتها، و شرعت تؤجر غرفها لآخرين لتفي بالإيجار و تدخر ، و هكذا استطاعت أن تستحضر إبنتها، و إستقرت حياة الأسرة نسبيا بعد أن وجدت عملا بصيدلية أدته بكفاءة و أمانة، و جلبت بودها العديد من الزبائن الأجانب  للصيدلية لتمكنها من اللغات الرومانية و المجرية فضلا عن الألمانية و لتفانيها، حتي أصبحت محل ثقة و محبة الزملاء و مالك الصيدلية، الا ان مضاعفات السرطان عاودتها كالسابق و زادت عليها آلام الحوض، فتقاعدت  قبل ان تجري العمليات الأخيرة.

 

سألتها كيف استطعت ان تبقي علي تلك الروح الإيجابية النشطة رغم ضيق الحال و العمليات الجراحية الخطيرة خلال عقود، و كيف استمرت في ذلك الكفاح بلا هوادة و لا نهاية حتي اصبحت و اسرتها من ميسوري الحال ؟ قالت أنه الإيمان و العمل، و الطموح و الأمل رغم الأزمات و الكوارث. بل أظن أنها تتقبل الحياة بترحاب دون شروط أو ضمان، و أن حياتها الشاقة منذ النشأة لم تترك لها ترف الانغماس في أي مشاعر سلبية ذاتية، فالإيمان دافع لشجاعة المواجهة، و طريق ليقين الفوز و النجاح، والكفاح عادتها منذ طفولة لم تعشها كمن في سنها، أما الطموح فوقود من يتحدي المستحيل، كما ان المودة و الابتسامة أسلوب الروح الأصيلة المؤمنة، المحبة المعطاءة، المتفانية الصافية.

 

إجمالًا ما الحياة الا مواقف، و هي عرفت كيف تختار، و بسهولة مطلقة، لأنها نفس ناضجة مسئولة، و شخصية قوية محبوبة، و عقل راشد واعي يعرف كيف يحدد المواقف،و يثابر للنهاية،و كيف يوجه الطاقة الي ما يفيد و يسعد.

 

أحيانًا نظن أن حياتهم عبر المتوسط سهلة، لكننا ربما لا نعرف قصص من لديهم أخلاقيات العمل الجاد و استقامة التعامل المسالم و احترام الذات و الآخر، و هم كثيرون، و يعرفون ان نظم بلادهم و امتثالهم للقانون سيكفل النجاح للمجتهد، و يمنح الفرص للجادين، و يكافئ المتميز وفق منطق الأمور. فالتمسك بالقيم الجوهرية المتوافقة هو السهل الممتنع، الذي يجعل الكفاح متعة، و يكفل للمجتهد النصيب، و يمهد الطريق للتفوق بعيدا عن المراوغات و الشكوك و الالاعيب، التي تهدر الطاقة،و تقوض الوفاق النفسي والمجتمعي.

ابتسامة ايزابيلا تعبير عن الأمل الوقاد، و مودتها قرينة الروح الصافية، و سيرتها عنوان الكفاح البطولي الذي يلهم كل يائس، فلا حياة بلا أمل، و لا أمل بلا عمل .

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock