استئناف التنوير في الحالة المصرية

د.جهاد عودة
التنوير نظام مستمر من عمليات ترقية الوعى النقدى بتطور السياسات العامة ، وذلك من خلال: أولا، زرع عقلانية تعمل على تنمية السلوك القصدى والاستهدافى بين المواطنين، ثانيا، العمل على التعليم وعلى قلع وقمع ثقافة الخوف العام، وثالثا، تنمية وتعظيم التوجه النفسى والمعرفى ناحية طرح التساؤل العام بين الجمهور، وعند توافر هذه المعاير الثلاثة جميعها بشمل متوازى ومتراكم، يتم تطوير التنوير وتعميق وتوسيع المستفدين منها على المستوى الفردى والجمعى. قصور واحد من هذه المعايير تساهم وظيفيا فى قلب التنوير لتصير عملية تنوير غير مستوية ، وبالتالى تولد آثارا واحتمالات عكسية وسلبية وتعمل على تقويض ما تحقق جوانب إيجابية لعملية التنوير. فى قول آخر، إن النضال من أجل التنوير يكون فى سبيل موضوعين فى ذات الوقت، اولهما، ان تتكامل الأهداف الثلاث الكبرى بمنطق تاريخى ، وثانيهما، ان تقاس عملية التنوير أساس مدى التراكم التاريخي لتكامل الأهداف الثلاثة.
من هذا المنظور يمكن تحديد معضلة التنوير المصرى ومأزقه المستمر فى العناصر التالية: أولا، بعبارة دقيقة إن ما تعانى منه مصر ليس الانسداد التاريخى للتنوير أو تلاشى او انقضاء التنوير، ولكن الاختلال التاريخى للتنوير. ويقصد بالاختلال عدم اتساق وتسوق العمليات الثلاثة للتنوير المشار إليها، ثانيا، ويظهر ويتجسد الخلل فى أربعة مظاهر كبرى: 1- ، الفصل بين الفيم والسلوك، 2- الفصل بين البيروقراطية والتنفيذ، 3- الفصل بين المشاعر اتجاه السلطة والمشاعر فى اتجاه الوطن، ور4- الفصل بين المحلى والعالمى، ثالثا، فى إطار هذه المفاصلات تطفح ظواهر كبرى تمسك بتلابيب الثقافة العامة للمواطن المصرى مثل غموض معنى المدنى وعلاقتة بالدينى، غموض معنى التقاليد العمل ووعلاقتها بالممارسة المجتمعية، وغموض حدود الحرية الشخصية فى علاقتها بالحرية العامة ، غموض العلاقة بين ما هو رسمى وما هو غير رسمى فى كافة المجالات السلطوية والشعبية على سبيل المثال، رابعا، فالتنوير يعانى من خلل كبير لأنه يمارس بأشكال مختلفة ومتعددة وغير منتظمة على مستوى الممارسة اليومية أكثر من كونه سياق رسمى للخطاب العام فى الدولة والمجتمع، خامسا، ان انخفاض الممارسة التنويرية على مستوى الخطاب الرسمى عن مثيلتها على مستوى الممارسة الشعبية أصابت الممارسة الشعبية للتنوير بسمات الانتقائية والعشوائية والتغول والاحتيال، سادسا، بعبارة منهجية ، هناك عدم توائم واسع النطاق بين التنوير كعملية ابستيمولوجية والتنوير كعملية لممارسة للتحقق والفعل، سابعا، الامر الذى يقول لنا إن استئناف التنوير لابد وأن تضمن هيكلة واسعة واعادة ربط وثيق بين التنوير كمعرفة والتنوير كممارسة يومية فى سياق متكامل القيم ومتعدد فى الممارسات .
بشكل عام تراوحت عملية التنوير المصرية وانقسمت إلى ثلاثة مذاهب فكرية وعملية :أولا، مذهب راديكالى ، وثانيا، محافظ ،وثالثا ، وسطى .
اتسمت هذه المذاهب الثلاثة فى كثير من الأحيان، ليس بالتعاقب، ولكن بالتداخل والتجاور، بمعنى ان التنوير المصرى لم يأت كله وفق مذهب من المذاهب الثلاثة. فقد اتسم وتميز الواقع المصرى، لأسباب عديدة سيتم تفصيلها فيما، بعدم القدرة الاجتماعية العامة على الحسم لصالح مذهب دون الآخر، فترك الخيار المجتمعى للأفراد والجماعات للاختيار والتنقل والترحال بين المذاهب الثلاثة وفق الحاجة والظروف الشخصية والايمانية والجماعية لكل فرد او جماعة صغيرة .
لهذا ليس غريب أن نرى هذا الخليط والكرنفال عشوائى فى الحياة المصرية سواء كما يتجلى فى مقتضيات وسلوك الدولة او المجتمع فى عاداته وتقاليده وممارساته. والمذاهب الثلاثة فى صورتها المثالية هي : اولا، المذهب الراديكالى، والذى يؤمن فى العموم بمعايير إنسانية شامة لمقتضيات التفكير العقلانى، ويحاول إخضاع هذه المقتضيات إلى التجربة العملية المحددة، وهو المذهب الذي يؤمن بأنه إذا كانت هناك نسبية فى الأحكام فهى تتصل وتتعلق أساسا بعدم القدرة على الإحاطة المطلقة للمفاهيم والتصورات ، ثانيا، المذهب المحافظ، فى هذا الإطار يتم تثمين أكبر للدوافع الذاتية والإيمانية على دوافع وفق المقتضى العقلاني الإنساني، هذا فضلا عن تمحور الفكر المحافظ حول أهمية الحفاظ على الذات الفردية والقيام بتشخيص الامة والجماعة كذات بها من سمات الاستمرار التاريخى المتخيل اكثر بشكل كاسح من عوامل التغير والتحول المفترض، فى هذا السياق يتبنى الفكر المحافظ فكرة الاصلاح ، وليس فكرة التغير الذى يتبناها المذهب الراديكالي، هذا مع الإصرار من جانب الفكر المحافظ على الفصل النسبى بين القيم والسلوك، ثالثا، المذهب الوسطى، وهذا المذهب لا يجب ان يفهم باعتبارة قيلا من كل : قيلا من نواحى الراديكالية و وقليلا من نواحى المحافظة.
بل يجب ان يفهم باعتبارة كلا قائما بذاتة وينصرف اساسا الى مفهوم الموازنة الشرطية والظرفية بين الاعتبارات والشروط كاساس التفكير والتقدير. هذا على ان تستهدف الموازنة التوفيق بين المصالح العامة والخاصة من ناحية والتعظيم نواحى المنقعة العامة المادية، من ناحية اخرى.
استئناف التنوير يتطلب اعادة بناء الذاكرة التاريخية للتنوير، او بمعنى اخر اعادة كتابة تصورنا التاريخى عن التنوير المصرى . النموذج الرئيسى لممارسة التنوير المصرى يتمحور حول سبع نقاط، رئيسه ، ومن هذه النقاط سنكتشف ضرورة بناء ممارسة وذاكرة تاريخية جديدة لكى نبعث روح جديدة فى التنوير كمشروع عام : اولا، ارتباط التنوير المصرى بالتعليم و بالنقد الثقافى الادبى او المتصل بالفكر العام فى المقام الأول، فالتنوير تجسد كالنشاط من اثارة اسئلة ثقافية نقدية حول الثقافة المصرية باعتبارها ثقافة فى تجلياتها ومسايرتها الاجتماعية محافظة وتقليدية، ولكن مع تعاظم الاسئلة النقدية زادت المقاومة المجتمعية ضد السؤال التنويرى العام، فكما يقول امانيول كانت فى فى مطلع مقالة الشهير ن التنوير : “التنوير هو خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته” ، بعبارة اخرى، ان التنوير لم يقدم خطة طريق لتحويل العقول والأفئدة صوب التنوير المستهدف ، ثانيا، ارتباط التنوير المصرى بنزعة ديكارتية، فاعتبر التنوير فى جوهرة ديكارتى . استهدف ديكارت ليس الاستيهانة بالمفاهيم الدينية الموروثة، ولكن تصحيحها من خلال الفحص العقلى، بعبارة اخرى، ان التنوير الديكارتى لم يستهدف تخفيض حجم الدين فى الحياة العامة ولكن ترشيد الفهم الدينى وتجلياته من خلال الادراك العقلى ، فديكارت لا يقول بالدين فى حدود العقل، ولكن يقول بالوصول إلى الله من خلال الفهم العقل المجرد، ولكن للاسف تم الفهم الديكارتى مجتمعيا باعتباره مضادا ويسعى ان نقض الدين وليس تصحيحه وترشيده ، ثالثا، ارتباط التنوير بالانفتاح على العلوم الغربية ووتشجيع الحداثة، حيث قامت ثورة العلوم والاكتشافات العلمية ولازالت تجذب الاهتمام بشكل اكبر الى الجانب الفنى للعلم عن الجانب المعرفى للعلم، فتم تعريف التنوير بأنه القدرة على التسابق ناحية الإنجاز القنى،وصممت المناهج العلمية بهذا القصد، وتم تخفيض مناهج المنطق وفلسفة العلم باعتبارهما خارج موضوع التقدم العلمى ، وبهذا تم الفصل بين ما هو الفنى والتقنى من ناحية وما هو المعرفي من ناحية أخرى، فانتهى التحديث بتدعيم العملي لقيم غير حديثة او تنويرية، رابعا، ارتباط التنوير باعادة تفسير بعض مصادر الشريعة الاسلامية، فرأينا بعض شيوخ الأزهر يذهبون تحت تأثير فقهاء ومذاهب غير تقليدية وغير عربية، ولكن إسلامية سنية صحيحة، مثل حالة الشيخ محمد عبده أو تحت تأثير التعليم الحديث والمفاهيم الجديدة للحكم، ولكن إسلامية سنية صحيحة مثل حالة الشيح على عبد الرازق، ولازلنا نرى فلاسفة واساتذه للغله عربية معاصريين يستمرين ، ولكن بخوف اجتماعى اكبر عن سابقيهم ، باثارة الطلب العام من الهئيات المجتمع والسلطة الحاكمة بضرورة التغيير والتنوير فى ادارك مفهوم مصادر التشريع الاسلامى ، خامسا، ارتباط التنوير بالتحرر الوطنى حيث جاء التنوير لشعوب العالم الثالث، وبعض شعوب اوربا الوسطى والشرقية من قبل برسالة بضرورة النهضة القومية والتحرر من هيمنة الاستعمار. تم فهم هذه كرسالة للبحث عن الاصالة والهويه الوطنية ، ولكن مع احياء الهوية الوطنية من اجل النهضة القومية جاءت وتجذرت ممارسات غير تنويرية، بل وتوحشت الممارسات السلطوية تدعى التنوير، سادسا، ارتباط التنوير بسيادة الممارسات الدولية عبر العالم ، جاء التنوير بالقدرة على تنميط الممارسات الدولية فى مؤشرات عالمية ، فنمت مفاهيم القانون الدولى ونضجت بالممارسة، ونشأت المنظمات الدولية واستفحلت ، واضطر العالم افرادا وجماعات ودولا على التواضع من اجل خلق اليات ونظم دولية وظيفية او قطاعية للحفاظ على السلم العالمى. ولكن مع ضوء ضرورة الحفاظ على السلم العالمى نشأت الحاجة الى العدوان ضد من يخالف سيادة النمط لهيمنة الممارسة العالميه ، سابعا واخيرا، ارتباط التنوير بتنمية المستقبل فاشاع التنوير مناخ التفاؤل للفرد والجماعات والدول وانصرف الناس الى التخطيط للمستقبل والصراع علية وحولة، مع ازدياد الصراع تتضئل اقدرات والموارد وتبرزت اهمية وضرورية التعاون الدولى، ولكن فى ضوء زخم الهويات الوطنية غير النقدية، وتزايد الانقسامات القيمية العالمية راحت فرص واحتمالات التعاون الدولى تذبل . تنبع مقولة استئناف التنوير من الاختلال التاريخى الذى عرضنا تفاصيله فى المقال السابق، والخلل خلق حالة مستمرة من عدم القدرة على احداث تراكم تاريخى . وربما يرجع العجز فى جانب منه الى تضارب واختلاف المصادر القومية للتنوير الاوربى ، فمرت بمصر اشكال مختلفة للخبرات التنويرية الاوربية والامريكية مثل الفرنسة والالمانية والايطالية والانجليزية والروسية والامريكية والان اليابانية، وللاسف لم يأت التأثير بشكل مستوى التأثير بل جاء بشكل متناقض واحيانا بصورة غير متجذرة فى الواقع، فلمس بعض الافراد او الفئات و الطبقات دون غيرهم . فى كثير من الاحيان حدث تشويه مقصود للآثار التنويرية من جانب السلطات السياسية والاجتماعية بقصد الحفاظ على الهوية الوطنية . خلال السبع نقاط المذكورة عالية لم تنجح مصر فى إحداث تراكم تاريخي ذات مغزى تنويرى.
ويصير السؤال: كيف يمكن تجاوز سمة العجز عن التراكم ؟ فى يقينى لا يكون إلا من خلال التعامل النقدي مع العجز وإعادة بناء وممارسات وذاكرة جديدة للتنوير.