فاروق جويدة: الأهرام وأنا .. قصة حب   

فاروق جويدة: الأهرام وأنا .. قصة حب   

بينى وبين الأهرام قصة حب أخذت اجمل واطول سنوات عمرى ولم تكن الأهرام الجريدة أو المؤسسة مجرد عمل أو ظيفة ولكنها كانت قدرا من أجمل الأقدار فى حياتى .. لا ابالغ اننى طوال سنوات عملى فى الأهرام اصبحت احفظ ظلال جدرانه وطرقاته ووجوه العاملين فيه .. عشت فى الأهرام اكثر مما عشت فى بيتى وفى كل مرة كنت اشعر ان هذا المبنى وهذه الصحيفة قد سطرت على عمرى اشياء رائعة لن انساها حتى ولو تركت خلفها بعض جراح الزمن ..

 

لم يكن فى حساباتى وانا انهى دراستى الجامعية فى جامعة القاهرة قسم الصحافة ان اقدارى سوف تحملنى الى هذا الأسم العريق الأهرام كان والدى رحمة الله عليه يشك كثيرا فى ان يحقق أحد من ابناء جيلى وانا منهم مكانا فى بلاط صاحبة الجلالة ويوم ان صارحته برغبتى فى الإلتحاق بقسم الصحافة قال لى بهدوء الصحافة يعنى هيكل ومصطفى أمين فأين ستكون بينهما انت.. وحملت حقيبتى قادما من اعماق ريف مصر لألقى رحالى فى رحاب الجامعة العتيقة .. جامعة القاهرة درة مصر وتاجها الشامخ ..

 

– كانت احداث النكسة فى 67 اكبر شرخ اصاب جيلى حين خرجنا نتظاهر ضد عبد الناصر الأب والزعيم والحلم كانت اول حادث تمرد من جيل عبد الناصر ضد الثورة وزعيمها ..

 

لا انسى يوم ان تنحى الزعيم وخرجت مشاركا فى مظاهرات ترفض النكسة ووسط ظلام القاهرة الدامس دخلت فى عمود نور ولم أجد امامى أحدا رغم الزحام يجفف دمائى التى تدفقت من رأسى فى شارع القصر العينى .. وحملت احزانى وعدت الى قريتى باكيا لم ادر يومها هل كنت ابكى على الحلم الكبير ام على انكسار جيل ام على المستقبل الغامض الذى ينتظرنى وانا اودع جامعة القاهرة وسنوات البراءة والأحلام .

 

كنت أجلس فى آخر المحاضرات لنا فى قسم الصحافة فى مدرج 74 فى كلية الآداب حين اقتحم د. خليل صابات رحمة الله عليه لحظات صمتى وقال اريدك بعد المحاضرة .. ذهبت اليه فى حجرة الأساتذة وبادرنى تشتغل فى الأهرام قلت له طبعا قال اذهب وأسأل عن الأستاذ ممدوح طه فى جريدة الأهرام فى شارع المساحة ..

 

< فى اليوم التالى كنت امام جريدة الأهرام فى مبناه القديم وبعد لحظات انتظار لم تطل كثيرا كنت اقف امام الأستاذ ممدوح طه .. كان رجلا ضخما فيه مهابه مع صوته الجهورى وملامحه الطيبة سألنى متى تنهى امتحاناتك فى الليسانس قلت بعد شهر.. قال تسلم نفسك بعد الإمتحان .. ساعتها خشيت ان ينسى اسمى واعود اليه فلا يذكرنى وقلت له .. استاذ ممدوح اول بديهيات الصحافة ان اعرف المصدر الذى اتحدث معه .. وانت لم تعرف اسمى .. ضحك وقال اسمك ايه وتأكدت ساعتها انه لن ينسانى ..

 

< عدت الى الأهرام وبعد ايام قليلة وجدت بجوارى فى المبنى العتيق عدد من زملاء الدراسة لبيب السباعى وعبد العزيز شرف وفرحات حسام الدين وعبلة الساعاتى وصابر عبد الوهاب وفوجئت بالأستاذ ممدوح طه يخبرنى اننى سوف اعمل فى القسم الإقتصادى مع الأستاذ إبراهيم نافع .. قبلت العرض على مضض فأنا لم أدرس الإقتصاد واكتب الشعر واريد مجالا تتفتح فيه موهبتى إذا كانت تستحق ودخلت ارشيف الأهرام ولا ابالغ إذا قلت اننى خلال شهور قليلة كنت قد قرأت اهم وأخطر ملفات الإقتصاد المصرى منذ قيام ثورة يوليو كانت هذه الفترة من اهم واخصب قراءاتى فقد منحتنى خلفية اقتصادية كبيرة اكدها بعد ذلك اقترابى من رموز الإقتصاد المصرى فى ذلك الوقت خاصة د. عبد المنعم القيسونى .. ود.حامد السايح .. ود.عبد العزيز حجازى وجمال الناظر وكامل دياب ومحمد غانم ومحمود عبد القادر حمزة وشريف لطفى وفتحى المتبولى وحسن الشريف..

 

< تعلمت فى الأهرام اشياء كثيرة انها مدرسة الحياة تعلمت من ممدوح طه كيف يدير فريق عمل بتجرد وكفاءة .. وتعلمت من صلاح هلال كيف تهز اركان كل شئ بتحقيق صحفى ناجح وقوى وجرئ .. وتعلمت من اساتذة الدسك المركزى وقد كنت اصغر ابناء الأهرام سنا يوم التحقت به كيف تكون المصداقية اسلوب عمل وحياة اما الأستاذ ابراهيم نافع فقد جمعنا الكثير من الود وان اختلفنا فى الأحلام والرؤى .. وذات يوم من حرب اكتوبر 73 وجدت قلمى يعود للشعر لأصدر ديوانى الأول اوراق من حديقة اكتوبر وقدمنى فيه كاتبنا الكبير الراحل توفيق الحكيم لتنتهى مرحلة من مشوارى فى الأهرام اقتربت من عشر سنوات مع عالم الإقتصاد يكفى انها وضعت يدى فى بداية الرحلة على اخطر واهم قضايا مصر فى كل المجالات بعد ان اصبح الإقتصاد يحرك كل جوانب الحياة .. عدت الى الشعر بعد فترة غياب طالت بسبب النكسة وتوالى صدور اعمالى وان بقيت علاقتى بالإقتصاد قارئا ومتابعا ومهموما ..

 

دخلت الأهرام منذ أكثر من أربعين عاما وراء حلم شارد .. والأن اقف على 45 كتابا حملت اسمى وجائزة الدولة التقديرية التى حصلت عليها عام 2001

 

< كل هذه الخواطر طافت امامى وانا احتفل مع زملاء المشوار بمرور 140 عاما على صدور الأهرام برعاية الأستاذ احمد النجار رئيس مجلس الإدارة والأستاذ محمد عبد الهادى علام رئيس التحرير فى حالة شجن جميلة كانت الأيدى تتصافح بعد ان تجمع رفاق الرحلة فى ذكرى ميلاد الصحيفة الأعرق

 

فى الإحتفالية الجميلة لم اتحدث كثيرا عن ذكريات الماضى وقلت إذا كان عمر الأهرام 140 عاما فقد أخذ من عمرى اكثر من اربعين عاما فى قصة حب هى اجمل سنوات العمر ولم انسى ان اتحدث عن احلام المستقبل التى تحمى وتصون هذا الكيان الضخم قلت .. لا اتصور الأهرام بعيدا عن روح العصر والتقدم امام تراجع الصحافة الورقية .. ولا اتصور الأهرام بدون قناة فضائية راقية وسط هذا الإسفاف الذى نعيش فيه خاصة ان لدى الأهرام معدات واستوديوهات وكاميرات وكل ما يتطلبه إنشاء قناة فضائية ناجحة خاصة ان ابناء وشباب الأهرام يقدمون خبراتهم لكل الفضائيات العربية والمصرية والأهرام اولى واحق بجهود ابناءه وقلت ان لدى الأهرام اصولا وعقارات واراضى تزيد قيمتها على 8 مليارات جنيه فى اقل التقديرات ولا يعقل ان يعانى من ازمات اقتصادية ولديه هذا الحجم من الأصول التى ينبغى استثمارها لتعيد للمؤسسة توازنها المالى .. وقلت ان تاريخ الأهرام قام على ثلاثية رائعة هى الإنتماء والمصداقية والإخلاص لقضايا الوطن وانه جمع يوما فى عهد الأستاذ هيكل رموز مصر من الكتاب والمبدعين الكبار وان عليه اليوم ان يفتح ابوابه لكل الشباب الواعد فيرعى المواهب ويفتح صفحاته لكل مبدع خلاق .. لقد حركت احتفالية الأهرام شجونا كثيرة ربما اختفت شواهدها ورموزها فى رحلة عمر مع هذا الصرح الكبير .. بقى الأهرام فى حياتى قلعة شامخة اطل منها قلمى على القارئ العزيز فقد منحته بكل السخاء عمرى ومنحنى الثقة والتقدير ..

 

كانت اسرة الأهرام التى جمعت كل رموزها شبابا وشيوخا وكتابا وكاتبات فى يوم من ايام الود والمحبة وتلك المشاعر النبيلة التى جمعتنا دائما على حب هذا الصرح الكبير .. استرجعت سنوات عمرى وانا احدق فى الوجوه حولى وكل واحد منهم سكن القلب والمشاعر فى وطن تعلمنا منه الحب واماكن عشنا فيها وتسللت الى دماءنا نبضا وعشقا وحياة .. هذه سطور من رحلتى فى الأهرام واتمنى ان اكتبها يوما ليس لأنها رحلة شاعر او كاتب فى بلاط صاحبة الجلالة ولكن لأنها كانت ومازالت اكبر قصة حب فى حياتى .

 

شكرا للصديقين أحمد النجار ومحمد عبد الهادى علام على هذه اللحظات المضيئة التى جمعت ابناء الأهرام فى هذه الذكرى العزيزة.

 

..ويبقى الشعر

 

مازلتُ أسكنُ فى عيونكِ مثل حباتِ النهارْ

أطيافُ عطركِ بين أنفاسى رحيلٌ .. و إنتظارْ

مازلتُ أشعرُ أننا عمرٌ نهايتُه .. إنتحارْ

والحبُّ مثل الموتِ يجمعُنَا .. يفرقـُنَا

و ليس لنَا إختيارْ

هل تـُنْجب النيرانُ وسطَ الريح ِشيئًا

غيرَ نارْ؟

مازلتُ أحيا كلَّ ما عشناه يومًا

رغم أن العمر َ.. أيامٌ قصارْ

والحبُّ فى الأعماقِ بركانٌ يدمَّرُنَا

وبينَ يديكِ ما أحلى الدَّمارْ

والشوقُ رغمَ البعدِ

أحلامٌ تطاردنَا

ومازلنا نُكابرُ كالصَّغارْ

فالهجرُ فى عينيكِ هجرُ مُكابر ٍ

هل تهربُ الشطآنُ من عشقِ البحارْ؟

إن جاء يومٌ و استرحتِ من المني

فلتُخبريني.. كيف أسدلتِ الستارْ؟

فإلى متى سنظلُ فى أوهامِنَا

و نظن أن الشمسَ ضاقتْ بالنهارْ؟

أدمنتُ حبَّك ِمثلما

أدمنتُ فى البحر الدُّوارْ

فلقاؤنا قدرٌ

و هل يُجدى مع القدر ِالفِرارْ؟

نقلا عن الاهرام