حرية العقل وتطور الأمم

حرية العقل وتطور الأمم

بهجت العبيدي
“أنا أفكر إذن أنا موجود” هذا الكوجيتو الديكارتي نسبة إلى رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes)‏ (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، فيلسوف، وعالم رياضي وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ”أبو الفلسفة الحديثة”، مثّل هذا الكوجيتو نقطة فصل ما بين العصر الحديث والعصور القديمة، فهو قد نقل مركز الكون من السماء إلى الأرض ومن القوى الغيبية إلى الإنسان، وكان نقطة الفصل بين الفكر العقلاني والفكر الأسطوري، وكان الخط الفاصل ما بين الخرافة والحقيقة.
كان هذا الكوجيتو اللحظة الأولى لإعلان الإنسان تحرره من ربقة الخرافات، وبداية طريق الإنسان للتخلص من سيطرة الطبيعة عليه والعمل على سيطرته هو على هذه الطبيعة من خلال منظومة فكرية سيتم بناؤها عبر عدة قرون لتصنع ما يعرف بالعقل الحداثي، ذلك الذي سيظهر أشد ما يكون الظهور في عصر التنوير الأوروبي. هذا العقل الذي هو العقل الغربي والذي تُشَكّل خصائصه الفكر الحداثي الغربي بكل نواحيه: في الفلسفة والعلم والفن وكل المناحي، وهي الخصائص التي شكلت عقل المواطن الأوربي.

إن لعصر التنوير مبادئ ثلاثة تتمثل في النزعة العقلانية والتي ظهرت في مواجهة ثوابت الكتاب المقدس التي لا تقبل النقاش، لأن المواطن الأوروبي في عصر النهضة انتقالا إلى عصر الأنوار واجه مشكلات علمية لم يستطع الكتاب المقدس، الذي كان المرجع الأول بل والأخير، حلها، وهنا كان لابد لهذا المواطن أن يلجأ لوسيلة أخرى لحل تلك المشكلات، فلم يكن أمامه غير المناهج التي ابتكرها العقل، حيث استطاع الإنسان بالاعتماد على العقل إنتاج مناهج العلم الحديث.
أما ثاني خاصية في عصر التنوير فقد تمثلت في التقنية “التكنولوجيا” التي هي ثمرة من ثمرات العلم الذي اقتحم العقل، ومازال يقتحم، مغاليقه وأخذ في البحث حتى توصل إلى هذه التقنيات التي بدورها ساعدت الإنسان الأوروبي في أن يتحرر من أسر الطبيعة بل جعلته يعمل على السيطرة عليها، وهذا ما كان قد فشل فيه التفكير الديني بالاعتماد على ما في الكتاب المقدس، وهنا أدرك الإنسان أنه يتقدم للأمام كلما اعتمد على عقله وكلما تقدمت علومه، وكلما تقدم في الزمن كلما تحرر من الطبيعة وازداد سيطرة عليها في ذات الوقت الذي تتقدم فيه الإنسانية.
وثالث خاصية تميز الفكر الحديث هي الإنسانية، والتي تمثلت قمة التمثل في الثورة الفرنسية التي كان شعارها “الحرية/ المساواة / الأخوة” والتي ساوت بين البشر جميعا، هذا الذي استتبع إلغاء العبودية لتزول مع الوقت طبقة العبيد، تلك التي كان تقر بوجودها كافة الأديان، بغض النظر عما يبرره كل دين في هذه الظاهرة.
ولقد كانت الثورة الفرنسية هي التحقق العملي للحداثة الغربية.
إن هذا المشوار الطويل الذي قطعه الإنسان الحديث يمكن أن يتمحور في شيئين: العقل والحرية.
والعوائق التي تقف في طريق العقل هي نفسها العوائق التي تقف في سبيل خلاص أية أمة من الأمم مما أصابها من تأخر وتدهور وما أصاب أبنائها من تخلف وجمود.

إن أكثر الأفكار والمعتقدات ترسخا في العقل هي الأفكار التي اكتسبها الإنسان من الأجيال السابقة، وهذه الأفكار تنقسم إلى قسمين: الأول ما يتفق مع العقل والمنطق، والآخر الخرافي الذي لا حظ له من الحقيقة، هذا الذي ليس محصورا، كما يظن البعض، في المعتقدات الدينية، لا بل في كل ما يرثه الإنسان من عادات وأعراف وقيم، بل وطريقة تفكير كذلك، تلك التي يمكن أن تتلبس بالأساطير والخرافة.
إن الخطورة تأتي من كون أن الأشياء تترسخ في عقل الإنسان منذ طفولته، فيعتبرها مع الوقت مسلمات، ومن ثم فإنه لا يخضعها إلى البحث أو الدرس، ومن ثم تصاحبه بل تصبغ طريقة تفكيره، وتسيّر حياته كلها.
لأنها تصبح المرجعية التي يقيس عليها ليحدد، من وجهة نظره بالطبع، الصواب من الخطأ، بل والخير من الشر.

إن الإنسان بطبيعته، أو بالأحرى الإنسان الذي لم يحرر عقله بعد، لا يقبل الجديد من الفكر ولا يستسيغ التجديد في أي مجال من مجالات الحياة، بل يدور في فلك الأفكار القديمة والمعتقدات حتى ولو كانت بالية،
وعن أسباب تقدم وتخلف العقل البشري، يتحدث الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل (بالإنجليزية: Bertrand Russell)‏‏ مايو 1872 – 2 فبراير 1970) إيرل راسل الثالث، فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني، يتحدث عن خمسة عوامل نفسية واجتماعية تقف وراء هذا السلوك العقلي الذي يرفض الجديد من الأفكار، ويزهد في التجديد ويفضل البقاء على ما هو عليه وهذه العوامل الخمسة هي: الثقة والخوف، والكسل، والنرجسية، والجهل، والسلطة.

أما العامل الأول وهو الثقة والذي يرتبط بشكل أو بآخر بالخوف والذي يرى راسل أن هزيمته هي بداية الحكمة، فللخوف دور بالغ في عدم تقبل الإنسان للجديد من الأفكار والمختلف من العقائد، فالعقل البشري يثق فيما لديه من أفكار وما غُرِس فيه من معتقدات ويركن لها، وفي المقابل فإن العقل يخاف من كل جديد، ويخشى المغامرات غير مضمونة العواقب، هذا الذي يجعله يفضل القديم، حتى ولو كان غير صحيح. هذا الذي يبقي العقل في حالة من الجمود ويجعله في قصور، هذا القصور الذي هو منافي للتنوير الذي عرفه الفيلسوف الكبير
إيمانويل كانت أو إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant) هو فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر (1724 – 1804) إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد.” كما عرَّف القصور العقلي على أنه “التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا.”
وفي رأي راسل، فإن ما يعرف باسم الثوابت والمسلمات الفكرية لهي أكبر جريمة ارتكبت في حق العقل، حيث سجنته في سياج ليس من السهل بل ربما من المستحيل الفكاك منه، وكما يقول راسل فإن كل شخص تُطوِّقه أينما ذهب سحابة من القناعات المريحة التي تتحرك معه مثل الذباب في يوم من أيام الصيف.
ومن ثم يظل العقل في جمود هائل لا يستطيع الخروج منه إلا من خلال التفكير بلا حدود والذي هو أهم سمات العقل والفكر الحر.

أما العامل الثاني من عوامل تخلف العقل البشري وهو الكسل، فالعقل يفضل راحة التسليم عن مشقة التفكير، وهذا واضح كل الوضوح، ففي التسليم راحة ودعة يخلد إليها العقل، فحينما تقدم للعقل كل الإجابات عن كل المعضلات والمشكلات والأسئلة، فهو يقبلها واهما نفسه أحيانا بمشاركته في الوصول لهذه الإجابات، ولأن في البحث عن إجابات للأسئلة وحلول للمشاكل وتحصيل المعارف الجديدة جهد كبير ومشقة هائلة هذا الذي لا يسعى له العقل طائعا. وفي هذا قال راسل مخاطبا هذا النوع: قد تقضي عمرك وأنت تعتقد بأنك تدافع عن أفكارك، ثم تكتشف أنك في الحقيقة تدافع عن أفكارهم التي زرعوها في عقلك.

أما العامل الثالث والذي هو من الأهمية بمكان هو هذا الغرور وتلك النرجسية التي يملكها الإنسان، فالإنسان، عموما، بطبيعته، لا يتقبل فكرة أنه كان على خطأ، حتى في أصغر الموضوعات، وفي أتفه الأفكار، فما بالنا بتلك الموضوعات الكبرى والأفكار الهامة، من مثل التوجه الأيديولوجي أو المعتقدات الدينية، التي يمكن أن يقضي الإنسان فيها جل، إن لم يكن كل حياته، إذ كيف يمكن أن يقتنع الإنسان في مثل هذه الحال أنه كان على خطأ. وهل يمكن أن يقتنع شخص ما أن ما أفنى فيه عمره كان لا قيمة له ولا جدوى منه؟!. هذا الذي إن حدث فإنه يمثل طعنة غائرة في نفس هذا الإنسان، لن يملك معها أي توازن. هذا الذي يفسر كيف يستميت الشخص في الدفاع عن معتقداته وأفكاره!.

أما الجهل الذي هو العامل الرابع والذي هو نقيض العلم والمعرفة، فهو، بلا أدنى شك، يمثل عقبة كبيرة في سبيل تقدم العقل الإنساني، وكما قال سقراط: الخير الوحيد هو العلم، والشر الوحيد هو الجهل.
والجهل هو سبب تحكم الخرافات والأساطير ، ويتجلى دور الجهل في رفض العقل لحقائق كثيرة لصالح الخرافة والمغالطة هذا الذي يمكن أن يؤدي إلى ما هو أخطر من الجهل وهو ادعاء المعرفة، وكما يقول نيل ديجراس تايسون: لا يوجد عار في عدم المعرفة ، ولكن تنشأ المشكلة عندما يُملأ الفراغ الذي تركه الجهل بالفكر غير المنطقي والسلوك المصاحب له.
فضلا عن أن الجهل هو سبيل العبودية الفكرية تلك التي يسلّم فيها الإنسان عقله إلى شخص آخر ليفكر عوضا عنه.
أما العامل الخامس والأخير الذي يرى الفيلسوف الإنجليزي أنه سبب من أسباب التي تؤثر في تقدم وتخلف العقل البشري فهو تأثير السلطة، فهناك سلطات قاهرة تمارس تأثيرا سلبيا خطيرا على العقل فتبقيه في حالة قصور وجمود وما ذلك إلا خدمة لمصالحها، ذلك الذي يتمثل في السلطة السياسية أو السلطة الدينية أو الأيدلوجيات الحزبية، فضلا عن سلطة المعتقدات الشعبية والعادات والأعراف أو سلطة القبيلة في المجتمعات القبلية أو سلطة العائلة في المجتمعات الحضرية فكل هذه الأنواع تمارس سلطة قاهرة على العقل البشري وكل هذه العوامل ساعدت وتساعد العقل على البقاء في حالة من الخمول والجمود.

إن حرية الفكر هي الشرط الأول لخروج العقل من خموله وقصوره وجموده. هذا الذي لن يتحقق إلا بحرية مطلقة للعقل لا يلتزم فيها بأي نوع من الوصاية ولا الحدود، وعدم وضع خطوط حمراء أمام العقل وحفظ حق كل إنسان في سيادته الكاملة على عقله وفكره.

وحرية العقل المطلقة هذه هي معيار ومقياس تقدم أي فرد وأي مجتمع، فمقدار تقدم أي مجتمع إنما يقاس بمقدار الحرية التي يتمتع بها هذا المجتمع، بمقدار الحرية التي يتمتع بها أفراده، وهو المجتمع الذي تصان فيه حرية الفرد بكل تجلياتها، إن معيار التقدم لأي مجتمع أو دولة أو أمة لا يكمن كما قد يتبادر إلى ذهن البعض في القوة الاقتصادية أو العسكرية بل هو في مدى شيوع ثقافة الحرية واحترام الرأي والتعبير والانفتاح على مجمل التجربة الإنسانية الغنية، هذا فقط الذي من شأنه أن يقلل من التعصب وأن يعزز السلام والاحترام وأن يفتح آفاق رحبة جديدة أمام العقل ليجدد ويبدع ويطور هذا الذي يرتقي بالمجتمع وأفراده جميعا.