ماذا بعد الحرب الكلامية بين ترامب وخامنئي؟

ماذا بعد الحرب الكلامية بين ترامب وخامنئي؟

د.سالم الكتبي
على خلفية تصعيد حاد في مواقف الجانبين، واستهداف عسكري مباشر بدلًا من خوض مواجهات بالوكالة، تبادل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمرشد الايراني الأعلى علي خامنئي تصريحات “خشنة” تذكر المراقبين والمتخصصين بتصريحات وملاسنات وحرب كلامية مماثلة جرت في وقت سابق بين الرئيس ترامب ونظيره الكوري الشمالي كيم جونغ اون، بعد أن وصف ترامب الزعيم الكوري الشمالي بأنه “رجل الصواريخ”، وانخراط الرئيسين لفترة في منازلات كلامية حادة انتهت بوصف ترامب لكيم بأنه “صديق” وأنه يثق في وعوده مكتفيًا بمداعبته بأنه “يحب إطلاق الصواريخ”!
مؤخرًا، طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من المرشد الأعلى الايراني علي خامنئي أن يكون “حذرا جدا في كلامه”. وعلق ترامب على حديث لخامنئي القاه في خطبة الجمعة في تغريدة على تويتر قائلا “ما يسمى بالقائد الأعلى لايران، الذي لم يكن على هذا القدر من العلو مؤخرا، كانت لديه بعض الأشياء البذيئة عن الولايات المتحدة وأوروبا ليقولها”. وأضاف ترامب في تغريدته “اقتصادهم ينهار، وشعبهم يعاني. يجب أن يكون حذرا جدا في كلامه”؛ والجديد في الحرب الكلامية بين نظام الملالي والولايات المتحدة أنه يجري هذه المرة بين قمة هرم النظام السياسي الايراني والمتحكم في قرار هذا النظام فعليًا وهو المرشد الأعلى خامنئي والرئيس ترامب مباشرة، وليس بين الأخير ونظيره الايراني حسن روحاني كما حدث في العديد من المرات السابقة.
الواضح في هذا الموقف أن الرئيس ترامب قد أدرك أن من يريد التعامل مع الملالي فعليه أن يتعامل مع “رأس” النظام مباشرة، ومن ثم فقد وجه ترامب كلامه وانتقاداته إليه مباشر، وليس إلى مسؤول سياسي مهما علا منصبه، حيث كشفت تجربة ترامب ومحاولاته عقد لقاء مع الرئيس روحاني بوساطة فرنسية خلال وجود الأخير في مقر الأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر الماضي لحضور اجتماعات الجمعية العامة للمنظمة الدولية، أن خامنئي قد نسف احتمالات عقد اللقاء في الساعات الأخيرة.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل يتكرر الموقف الأمريكي ـ الكوري الشمالي بنسخة إيرانية؟ والمقصود هنا بطبيعة الحال ليس احتمالية عقد لقاء قمة بين ترامب وخامنئي، فهذا الأمر يبدو مستبعدًا تمامًا على الأقل في ظل المعطيات والظروف الراهنة، ونظرًا لتشابكات وتعقيدات السياسة الايرانية، ولكن الأقرب للتصور هو امكانية أن تفضي الحرب الكلامية المحتدمة بين الرئيس ترامب والمرشد الايراني الأعلى إلى توجيه من الأخير للقادة السياسيين بفتح حوار مباشر مع الجانب الأمريكي.
الحقيقة أن هذا التراشق غير المسبوق بين ترامب وخامنئي له أبعاد داخلية سياسية لها أهمية لا تقل عن موضوع الحوار الثنائي، فكلاهما يحاول توظيف الحالة الصراعية القائمة في كسب دعم شعبي يعزز موقفه، فالنظام الايراني يبدو في أضعف حالاته داخليًا بسبب العقوبات والغضب الشعبي من اسقاط الطائرة الاوكرانية التي كان أغلب ضحايا من الايرانيين، فضلًا عن محدودية الرد العسكري على مقتل سليماني وما أحدثه هذا الرد المحسوب سياسيًا بدقة من صدمة وذهول لدى اتباع الملالي وانصارهم، ما يستوجب السعي لامتصاص جزء من هذا الغضب عبر حرب كلامية وتصريحات تعبوية. على الجانب الآخر يبدو الرئيس ترامب في حاجة إلى استمرار حالة صرف نظر الرأي العام الأمريكي عن تحقيقات الكونجرس معه ونقل بؤرة الاهتمام السياسي إلى متابعة تطورات الأزمة مع الجانب الايراني.
ماحدث في الآونة الأخيرة قد تسبب في صعود الجانبين الايراني والأمريكي قمة الشجرة، بحدوث مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، لا حرب بالوكالة، حيث قامت الولايات المتحدة باستهداف وقتل قائد ميلشيا “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني، وجاء الرد العسكري الايراني المحسوب باستهداف قاعدتين عسكريتين تتمركز فيهما قوات أمريكية بالعراق، ماتسبب في إصابة عدد من الجنود الأمريكيين، وبالتالي يحتاجان إلى فترة زمنية لتخفيف حدة التوترات والهبوط من قمة الشجرة واستئناف الحرب الباردة التي ظلت عنوانًا للتوتر القائم بينهما طيلة السنوات الماضية.
الأمر المؤكد في الحالة الراهنة أنه لا أحد من الجانبين يرغب في خوض عسكري رغم كسر قواعد اللعبة ورسم حدود جديدة لها، فالأرجح أن كلاهما قد اعاد اكتشاف حدود قدرة الآخر، فالملالي قد أدركوا أن استهداف رؤوس نظامهم بضربات عسكرية مشرطية أمريكية مسألة واردة وقابلة للتحقق، والولايات المتحدة قد تعرفت إلى حدود “دقة” إصابات الصواريخ الايرانية التي أصابت قاعدتيها العسكريتين في العراق، واللعبة كانت تمضي بحذر وهدوء شديد، وعلينا أن نتذكر جيدًا أن إيران قد أقرت بإبلاغ الولايات المتحدة عبر الوسيط السويسري بتوقيت ومكان الرد الصاروخي على مقتل سليماني وأن هذا الرد سيكون محدودًا ويستهدف الانتقام واغلاق الموضوع، ما يفسر تمامًا عدم وجود قتلى أمريكيين في الهجمات الصاروخية الايرانية رغم وجود نحو 1500 جندي أمريكي يتمركزون في القاعدتين العسكريتين.
مايعزز فرضية استبعاد الحرب أن الرئيس ترامب يعتمد استراتيجية قائمة على المفاجأة ثم الانطلاق إلى البحث عن نقطة التقاء، وهو ماحدث تمامًا في أزمات عدة أبرزها الحالة الكورية الشمالية، حيث اعتقد الكثيرين حول العالم بأننا على شفا حرب عالمية جديدة، ولكن سرعان ماتحول الأمر إلى قمة تاريخية بين الرئيسين ترامب وكيم. هذا السيناريو يتكرر الآن بين الولايات المتحدة وإيران حيث نفذّ الرئيس ترامب إرادته وحقق أهدافه الاستراتيجية المهمة من اغتيال سليماني، في منعطف قد يحسم فرص الانتخابات الرئاسية المقبلة لمصلحته، ثم توجيه الملالي للرد في حدود الضربة وتفادي التصعيد، وتحقق ذلك بالفعل عبر ضربة حفظت ماء وجه الملالي أمام مؤيديهم حتى وإن خالف الرد سقف التوقعات التي رسمت وارتفعت للغاية بناء على هدير التصريحات والتهديدات الايرانية، وصمت أمريكي اكتفى بإعلان عدم وقوع قتلى أمريكيين وشبه إعلان صامت عن قبول الرد الايراني كونه لم يخدش كبرياء القوى العظمى الأولى المهيمنة على النظام العالمي!
بصرف النظر عن التعنت الايراني الظاهري في رفض الحوار مع الولايات المتحدة، ففي قناعتي أن الأنظار الآن تتجه أمريكيًا وإيرانيًا للبحث عن مسار للتفاوض يحفظ ماء وجه الطرفين، فالولايات المتحدة لا تريد الدخول في صدام عسكري مباشر مع إيران، وتركز على حماية مصالحها الاستراتيجية في العراق والمنطقة، والملالي بدورهم باتوا يدركون أن الرهان على فشل الرئيس ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية بات ضعيفًا للغاية، وأن من الأفضل انتزاع تسوية سياسية يريدها ترامب قبل نوفمبر المقبل (موعد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الأمريكي) ويريدها الملالي أيضًا للخروج من عنق الزجاجة الذي بات يهدد بانهيار النظام تحت وطأة الضغوط والاحتجاجات الشعبية المتزايدة.