فاروق جويدة: لماذا انسحبت النخبة المصرية من الشارع السياسى؟ 

 

هناك سؤال يدور فى اذهان الكثيرين منا هذه الأيام لماذا اختفت النخبة المصرية أين هى وماذا تفعل ولماذا أخذت مكانا قصيا من الأحداث وكأنها قررت ان تبتعد تماما عن كل ما يدور ويجرى

 

. والسؤال الأخطر هل هو انسحاب ارادى ام هو اختفاء قسرى؟! والنتيجة فى الحالتين ليست فى صالح هذه النخبة .. قد يسخر البعض من السؤال وقد يتساءل واين كانت هذه النخبة فى احداث مضت .. لقد هادنت زمنا طويلا انظمة الفساد بل وشاركت هذه الأنظمة أخطاءها وخطاياها لقد رقصت على كل الحبال ولم تترك بابا إلا ووقفت امامه مستجدية من اجل مصالح عارضة ومكاسب مشبوهة بل ان الكثير من ابواقها الآن يبكى على ازمنة رحلت بل يطالب بعودة وجوه واشباح قبيحة اساءت لهذا الشعب واستباحت ثرواته وعمره وتاريخه .. هناك فلول فى هذه النخبة تتصور ان الماضى يمكن ان يعود وان القضية قد انتهت فلا حساب ولا عقاب ولا مساءلة .. ان بعض رموز هذه النخبة مازال يتصور ان الزمن يمكن ان يتوقف وتعود الساعات للوراء لنجد امامنا مرة اخرى هذه الوجوه القبيحة.

 

> انهم يقولون ان الظروف كانت افضل وان هذا الشعب لم يقدر العبقريات التى كانت تدير شئونه ونسى هؤلاء ان تراكمات اليوم ما هى إلا خطايا الأمس .. وطن بلا طرق او كهرباء او خدمات ومرافق وملايين يسكنون العشوائيات وشعب انقسم الى طبقتين من اخذوا كل شئ ومن حرموا من كل شئ ..على اى شئ يبكى هؤلاء غير انهم كانوا من فلول هذا العهد وجنوا منه المكاسب والصفقات .. الحقيقة ان كلا يبكى على ليلاه وفلول النخبة التى تدعو لعودة الماضى لاتدرك الحقيقة وان الشعب تغير واصبح اكثر وعيا ولن يخدعه احد مرة اخرى

 

> هذا الجزء الشارد من النخبة يطل احيانا وبلا مواعيد ينشر سمومه هنا او هناك مبشرا بعودة زمن العبقريات والكفاءات لأن مصر فى حاجة الى هؤلاء، والحقيقة ان هناك عبقريات تصنع الخير وهناك ايضا كفاءات لا تعرف غير الشر، امام هذا المشهد الغريب تبدو فصائل النخبة المصرية بعيدة تماما عن الساحة بإستثناء بعض الابواق التى اساءت للماضى والحاضر معا وهذه الأبواق لن تضيف شيئا بل انها تسحب ارصدة كثيرة من انجازات لا ينكرها احد

 

ان الدولة تقوم على جناحين احدهما اقتصادى والأخر سياسى وما بينهما بعد ثقافى وفكرى وهو صاحب دور مؤثر فى المجالين فلا اقتصاد بلا ثقافة ولا سياسة بغير فكر.

 

> على الجانب الإقتصادى هناك منظومة قد نتفق او نختلف عليها ولكن المهم ان العمل لم يتوقف وان الإنجاز قائم.. ولاشك ان جيش مصر يقوم بدور كبير فى هذه المنظومة، ورغم كل الانتقادات التى توجه الى هذا الأسلوب فى العمل إلا ان الجيش كان البديل الوحيد لإخراج مصر من محنتها فى السنوات العجاف .. لقد انجز الجيش مشروعات كثيرة كان من الصعب بل من المستحيل ان تنجزها جهات اخرى لأن كل هذه الجهات كانت موجودة ولها نفوذها ولم تفعل شيئا .. ان الغريب فى الأمر هو موقف رجال الأعمال الذين رفضوا حتى الآن ان يمدوا ايديهم فى رحلة البناء وكأنهم ينتظرون المجهول.

 

> فى الجانب الآخر من الصورة وفى الوقت الذى يبدو فيه المشهد الاقتصادى أكثر فاعلية وحيوية فإن المشهد السياسى يبدو خافتا وهزيلا بل انه غاب تماما بكل عناصره الفعالة والمؤثرة .. ان المشهد السياسى فى مصر الآن يعيش ما يشبه حالة الموات رغم ان العالم كله كان ينتظر مصر الثائرة بشبابها وشموخها وحيويتها ..

 

> نحن امام احزاب سياسية يقال انها تزيد على 40 حزبا بلا مشاركة.. لقد غابت هذه الأحزاب عن كل القضايا الهامة ولم يظهر لها اى اثر فى كثير من المواقف والأزمات بل ان بعضها انضم الى مجلس الشعب لملء الفراغ وتحت قبة المجلس كانت مشاركات الأحزاب ضئيلة بإستثناء القذائف الفجة التى اطلقها بعض الأعضاء وكان فيها تشويه لصورة المجلس مثل عذرية البنات وعجز الرجال وكلها نماذج سلوكية غريبة اساءت للمشهد المصرى كله وليس السياسى فقط .. أين الأحزاب السياسية من قضايا الضرائب والأسعار وتعويم الجنيه وحوداث الهجرة وغرق المئات على شواطئ رشيد وتكاسل اجهزة الدولة فى مواجهة هذه الكوارث واين الأحزاب من قضايا الفساد فى القمح والسكر والسلع الرئيسية وغياب الرقابة الحكومية على الأسواق .. لقد غابت الأحزاب المصرية تماما عن الساحة واكتفى البعض منها بما حصل عليه من مقاعد فى مجلس الشعب، اما هموم الناس وقضايا الشعب فلا احد يسأل عليها.

 

> اين النقابات المهنية المصرية منذ اختفت وهى تبحث عن بعض المكاسب التى تحقق بعضها وهى غائبة تماما عن كل ما يجرى.. اين نقابة الأطباء والصيادلة من الإرتفاع الجنونى فى اسعار الأدوية بل ومن اختفائها امام عمليات الاتجار فى صحة المواطنين، ان للدواء اكثر من سعر هذا إذا وجدته وانتهت تماما مسئولية نقابة الأطباء والصيادلة فى مراقبة بل ومساءلة اعضائها انا هنا لا اطالب بدور سياسى، للنقابات فلسنا فى حاجة الى مسلسلات جديدة للتظاهر ولكننا فى حاجة الى دور وطنى يحافظ على صحة المواطن ويحفظ له حقه فى الحصول على الدواء بسعر مناسب ودون مكاسب فيها الكثير من التجاوز.

 

اين نقابة الصحفيين، منذ غرقت فى ازمتها الأخيرة مع وزارة الداخلية اصبحت ضيفا مقيما بين اقسام الشرطة والمحاكم رغم انها كانت من اكثر النقابات المهنية فى مصر دورا ورسالة حتى انها الآن تعجز عن انجاز قانون معلق بين السلطة القضائية والحكومة ينظم احوال الصحافة المصرية .. ان الأخطر من ذلك كله احوال الإعلام المصرى وقد وصلت الى اسوأ الحالات امام اموال غريبة تتدفق عليه دون ان تعلن عن مصادرها واصوات غريبة وشاذة ومضللة فى معظم الأحيان حيث لا رقابة ولا نقابة ولا احد يسأل عن هذه الجرائم التى تحدث كل ليلة على الشاشات تحت مسمى الإعلام

 

> فى نهاية المطاف نتوقف فى الشارع السياسى المصرى عند الشباب وهو يعيش حالة احباط ويأس شديدين .. لقد جلس فى بيته بعد ثورتين وخلع رئيسين ولم يصل الى شئ انه ضائع بين البطالة والتواصل الاجتماعى وكل طرف يتحاور مع نفسه.. ان مع كل شاب اذاعته الخاصة وجريدته وشاشته وامامه هذا العالم الفسيح والجميع يتكلم بلا عائد ويتحاور دون ان يصل لشئ وفى النهاية تضيع سنوات العمر من كلام الى كلام ومن احباط الى اكتئاب .. ان هذا الشباب الغاضب الذى قرر ان يترك العالم الواقعى ليعيش فى هذا العالم الافتراضى بأحلامه الكاذبة وحواراته وبذاءاته وغضبه هذا الشباب يمثل اكبر جريمة يرتكبها المجتمع فى حق المستقبل..وإذا تركنا هذه الملايين تعيش فى هذه الأوهام بلا حلم ولا عمل ولا انجاز فهى الغام موقوتة.

 

> هنا ينبغى ان نسأل انفسنا بأمانة.. إلى اين يصل بنا هذا المناخ السياسى المختل..احزاب استسلمت ونقابات تخلت عن دورها.. وقضايا مصيرية لا تجد من يدافع عنها او يتحاور حولها وشباب فقد الثقة فى كل شئ ابتداء بالأسرة والمدرسة والجامعة وانتهاء بمجتمع بخل عليه بكل شئ ..

 

ان الإنجازات والحلول الاقتصادية ضرورة ملحة ولكنها من غير مناخ سياسى مؤثر وفعال تخلق مجتمعا يسير على قدم واحدة..لن أبالغ مثل كل الحالمين فى ديمقراطية حقيقية فمازال امامنا طريق طويل حتى نتخلص من عاهات نظم مستبدة وجماعات كفرت المجتمع كله .. لن أبالغ فى خطوات سريعة تضع مصر فى مكانة كانت تستحقها من زمن بعيد فى الحريات وحقوق الإنسان ولكن هذا الصمت وهذا الانسحاب المريب من النخبة يفتح ابوابا كثيرة للقيل والقال.

 

> امام محاكمات لرموز النظام السابق انتهت الى لاشئ يقف الإنسان حائرا امام ما حدث فى 25 يناير و30 يونيه هل كان الشعب على حق حين ثار ام كان الإستبداد هو الأفضل من اجل هذا عاد .. وإذا كنا بالفعل جادين فى التغيير شعبا وحكومة فلماذا وقف الشارع السياسى صامتا ساكنا مريبا بهذه الصورة الغريبة .. واين النخبة المصرية بل واين ما بقى منها إذا كانت لها بقايا .. لقد منيت هذه النخبة بهزيمة ساحقة امام جماعة الإخوان المسلمين وسرقت منها اعظم ثورة فى تاريخ هذا الشعب فى 25 يناير..لقد فرطت هذه النخبة فى ثورة شبابها وسقط ضحية الإحباط والاكتئاب ولولا ثورة 30 يونيه وموقف الجيش المصرى الذى حماها لبقى الإخوان فى حكم مصر حتى الآن.. هل اكتفت النخبة بما حققته ثورة يونيه من مطالب واهمها رحيل الإخوان .. أين مطالب الحريات وحقوق الإنسان وكل هذه الشعارات التى رفعتها هذه النخبة طوال تاريخها ولم تحقق منها شيئا ..

 

ان الشئ المؤلم والمؤسف ان يبدو الشارع السياسى فى مصر بلا معارضة ونجد انفسنا بين خيارين كلاهما اسوأ من الآخر وهما فلول العهد البائد وفلول الإخوان

 

> لا أعتقد ان الرئيس عبد الفتاح السيسى سوف يقف ضد احزاب جادة وملتزمة وواعية بقضايا الوطن وهمومه ولا أعتقد انه يمكن ان يرفض مشاركات النقابات المهنية فى تحسين احوال الناس وتقديم الخدمات للمواطنين كل فى مجال تخصصه.. ولا اتصور انه يمكن ان يرفض اى ادوار يقوم بها المجتمع المدنى فى مواجهة الفساد.. ان الفراغ الذى يعانى منه الشارع السياسى امام نخبة غابت او انسحبت يحمل مخاطر كثيرة ان تبقى جماعة الإخوان المسلمين تمثل المعارضة الوحيدة فى الشارع السياسى بالقتل والعنف والدمار لأن ذلك يعنى ان تبقى رغم كل مساوئها البديل الوحيد لما هو قائم وتتكرر اخطاء العهد البائد ونجد انفسنا امام كوارث جديدة.

 

ان إعادة الحياة للشارع السياسى تتطلب عودة قوية للأحزاب مع دعم حكومى واضح وصريح واعادة دور النقابات المهنية وحمايتها من عناصرها المدسوسة من بقايا الإخوان وفتح مجالات العمل السياسى امام الشباب بتشكيل احزاب جديدة مع دعم لمسيرة المرأة المصرية التى أثبتت قدرتها وجدارتها فى السنوات الماضية .. وقبل هذا كله ان تفتح السلطة ابوابها لكل القيادات والأفكار السياسية وان تشجع مبادرات المجتمع المدنى فى مواجهة الأزمات وتقديم المشورة لمؤسسات الدولة حتى لا يصبح الفراغ السياسى اكبر تهديد لمستقبل هذا الوطن.