الموروث التاريخي.. وفخ التناقض

الموروث التاريخي.. وفخ التناقض

د. محمود خليل
مفارقات عديدة يجدها المتأمل لصورة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فى كل من كتب السيرة وتفاسير القرآن الكريم، بشكل يضعه فى أحوال أمام صورتين مختلفتين للرسول فى كل نص منهما.

أثار واحد من أبرز الكتَّاب (الشاعر والكاتب العراقى معروف الرصافى) إشكالية المفارقة تلك بدايات القرن العشرين، وأعد دراسة عميقة عن الشخصية المحمدية، تصدر مقدمتها فقرة تستحق التأمل، يقول فيها: «وإذا دحضنا ما جاء به الرواة من الأخبار الملفقة بما يكذبها من المعقول ومن آيات القرآن لم نر فى حياته ما يخالف العادة ويخالف سنة الله التى لا تقبل التبديل ولا التحويل. وسنجد أنفسنا أمام شخصية عظمى اجتمع فيها من عناصر الكمال البشرى ما لم يعرف التاريخ اجتماعه من قبل».

وحديثاً أثارت الباحثة التونسية «ناجية الوريمى» الإشكالية نفسها فى كتابها «الائتلاف والاختلاف»، وخلصت إلى أن بعض الأحداث تم معالجتها بشكل مختلف داخل كل من السيرة وتفاسير القرآن الكريم. واستنتجت أيضاً أن شخصية النبى التى رسمتها السيرة عكست أننا أمام بشر اصطفاه الله لحمل رسالته، فى حين رسمت التفاسير صورة مثالية للنبى لا أثر فيها للنوازع البشرية.

ثمة مساحات من التناقض إذاً تظهر بين نص السيرة ونص التفسير، وفخ التناقض هذا وقع فيه واحد من كبار من كتبوا فى الفرعين، وهو «ابن كثير»، الذى اشتهر بتفسيره للقرآن الكريم (تفسير ابن كثير) وكتابة السيرة (البداية والنهاية).

«ابن كثير» واحد من أكبر مفسرى القرآن والمؤرخين للإسلام، ممن تشهد كتاباتهم على حالة التناقض التى أحياناً ما تحكم رؤية بعض المؤرخين لعدد من الشخصيات المؤثرة فى تشكيل خطاب الموروث التاريخى والتفسيرى. والمتأمل -على سبيل المثال- لما ذكره «ابن كثير» حول شخصية «كعب الأحبار» -يهودى الأصل- يجد أن حديثه عنه يتسم بالتشكك فى أقواله التى يستقيها من التوراة وما ورثه عن علماء بنى إسرائيل، ورغم ذلك تتزاحم كتاباته فى السيرة والتفسير بالعديد من الأخبار والحكايات التى ينقلها عنه.

موقف «ابن كثير» من موضوع تحريف التوراة متناقض، ففى تفسيره لآية «التحريف» تجده يشير إلى أن التحريف المقصود يعنى الغرض فى التأويل، أو سوء الفهم، والمراوغة على أوامر السماء، ولا ينص صراحة على أنه يعنى تغييراً أو تبديلاً للنص.

وفى موضع آخر من كتابه «البداية والنهاية» يقدم فهماً آخر لمعنى «التحريف» وكذا رأياً متناقضاً فى «كعب الأحبار» يقول فيه: «وهذه التوراة التى يبدونها ويخفون منها كثيراً فيما ذكروه فيها تحريف وتبديل وتغيير وسوء تعبير. وهذا «كعب الأحبار» من أجود من ينقل عنهم وقد أسلم فى زمن عمر، وكان ينقل شيئاً عن أهل الكتاب، فكان عمر، رضى الله عنه، يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق وتأليفاً لقلبه، فتوسع كثير من الناس فى أخذ ما عنده، وبالغ أيضاً هو فى نقل تلك الأشياء التى كثير منها لا يساوى مداده، ومنها ما هو باطل لا محالة، ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذى بأيدينا».

«ابن كثير» يرى أن الكثير مما يحكيه أو ينقله «كعب الأحبار» لا يساوى المداد (أى الحبر) الذى كُتب به. فما الذى دعاه إلى النقل عنه؟. إنها الرغبة الجامحة فى إثبات نبوة محمد فى التوراة، والمحاولة الدؤوبة للاستشهاد بحالة «كعب الأحبار» عند تفسير الآيات القرآنية التى تشير إلى أن أهل التوراة يعلمون نبوة محمد لكنهم يكتمون الحق.

فعل المؤرخون ذلك وكأنهم بحاجة إلى إثبات الحق الذى جاء به القرآن ونبى الإسلام، وهى مفارقة عجيبة أساسها الرغبة فى الحشو كانت توافق هوى بعض منهم، بما فى ذلك كبيرهم «ابن كثير»، رغم قناعتهم وقناعة «الكبير» بفساد وعبثية الكثير مما يحكيه «كعب».