هل تعطي الإدارة الأمريكية قُبلة الحياة للقاعدة؟

هل تعطي الإدارة الأمريكية قُبلة الحياة للقاعدة؟

خالد عكاشة
إعلان الرئيس الأمريكى جو بايدن الأسبوع الماضى، سحب القوات الأمريكية التى تقود تحالفاً دولياً «غربياً» لمحاربة الإرهاب على الأراضى الأفغانية، يعد ترجمة عملية لتوجهات الإدارة الديمقراطية التى يظل لها زاوية رؤية متفردة فى عديد من القضايا، ليس الإرهاب وحده هو صاحب هذا الاختلاف، رغم أنه يظل أخطر الملفات التى لن تقف الإدارة الجديدة عن مفاجأة الكثيرين بمثل تلك التوجهات وإرادة الفعل. وبقدر ما توضح هذه الرؤى الجديدة طبيعة التيار الجديد، الممسك بزمام السلطة اليوم فى الولايات المتحدة، إلا أن لهذا التوجه أصداء عالمية متنوعة وعلى مختلف الأصعدة الأخرى التى لا تقل خطورة وأهمية عن ملف الإرهاب، لكن يظل هذا الأخير له تفرده بما يحمله من طابع القدرة عل التجدد واستعادة مكامن ونوازع صناعة المخاطر.

الرئيس الأمريكى حاول أن يسوق هذا القرار بفلسفة تبدو عقلانية رغم إدانتها غير المباشرة لكل الجهود التى بذلها أسلافه منذ العام 2001، وهى حقبة شملت عقدين من الزمن تحدث عنها الرئيس «بايدن» باعتباره رابع رئيس أمريكى يشهد وجوداً أمريكياً فى أفغانستان، وهى فترة تعاقب على إدارتها جمهوريان وديمقراطيان، ويرغب الرئيس الحالى ألا ينقل هذه المسئولية إلى رئيس خامس. مثَّل عام 2011 ذروة هذه الحقبة حين وصل حجم القوات الأمريكية (100 ألف جندى)، وفيه قتلت زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، فى حين تجاوزت كلفة هذه الحرب (2 تريليون دولار)، وأودت بحياة (2448 جندياً). اليوم بعد هذه الرحلة الطويلة ترى الإدارة الجديدة أن أهداف الولايات المتحدة باتت غامضة على نحو متزايد، وعندما شرع الرئيس السابق ترامب فى إبرام اتفاقية تقضى بسحب جميع القوات الأمريكية من هناك، فى موعد أقصاه شهر مايو المقبل، فشل فى تنفيذ ذلك قبل رحيله وسلم أمر (2500 جندى) إلى الرئيس الحالى، الذى بات يواجه معضلة حقيقية تتمثل فى استخدام ورقة وجود هذه القوة وحلفائهم، فى عمليات المساومة بين أطراف الصراع فى أفغانستان ومن يقف خلفهم من خارجها.

حركة «طالبان» وضعت شرط انخراطها فى أى مباحثات تخص مستقبل أفغانستان، برحيل تلك القوات فى الموعد الذى توصلت إليه الحركة مع إدارة ترامب، وهو مايو المقبل الذى تهدد فى حال تجاوزه أن المشكلات الأمنية ستتزايد حتماً. وتحاول أن تفرض الحركة التى تم الإطاحة بها فى 2001 معادلة داخلية تعتبرها منتصرة، أو قادرة على انتزاع معظم مطالبها على الأقل، فى مقابل تثبيت مشهد أمنى مستقر مع بقية المكونات الأخرى، التى ترى فى المقابل أن ما مرَّ بأفغانستان خلال السنوات الماضية، يحتم النظر إلى المشهد باعتبار محصلته لا تعطى لأحد ميزة الانتصار، بل تستوجب البحث عن سبل واقعية للتعايش من أجل إنقاذ وطنهم من التهديدات التى لم تنحسر حتى الآن.

هذه الإشكالية ما لبثت أن أعادت تنظيم «القاعدة» للواجهة مرة أخرى، فالتنظيم الذى تعرض لانتكاسة كبيرة بعد مقتل زعيمه التاريخى «بن لادن»، تزامناً مع الصعود الصاروخى لتنظيم «داعش» الذى تمكن من سحب بساط القيادة الإرهابية من تحت أرجل مركز التنظيم فى أفغانستان وقت كان ملاحقاً من قبل القوات الأمريكية، فى ذروة عملياتها الأمنية والعسكرية ما بعد 2011. اليوم يبدو له المشهد الداخلى فى أفغانستان نموذجياً لاستعادة قواه، ولملمة الشروخ العميقة التى أصابته بدءاً من شريحة قياداته وصولاً إلى قواته العاملة على الأرض، والتى تبعثرت فى كثير من مسارح النشاط المسلح خلال العقد المنصرم. الداخل الأفغانى يدرك يقيناً بأن إحدى أوراق القوة التى تلوح بها «طالبان» فى مواجهة الآخرين، هى صلاتها الوثيقة بعناصر «القاعدة» القادرين على استعادة فاعلية التنظيم فى فترة وجيزة، فى حال توافر لهم مساحة من هدوء الملاحقات التى كانت القوات الأمريكية تضيق عليهم بها سابقاً، فبقدر فاعلية مهام المكافحة وقدرتها على تضييق مساحات الحركة، يظل للتنظيم ميزة الخبرة النوعية بالجغرافيا الاجتماعية والقبلية التى تمكنه من العمل سريعاً على أرض خبر دروبها وخرائطها مما يجعله يمثل فائض قوة لـ«طالبان»، لاسيما مع بداية إمساكها بأطراف المشهد مرة أخرى.

مسئولو الأمن والاستخبارات الأفغانية، رصدوا مؤخراً -وتحديداً منذ نجحت «طالبان» فى التوقيع مع الجانب الأمريكى- نشاطاً كبيراً وجديداً لعناصر «القاعدة» لم ينتظر تنفيذ الخروج المقرر للقوات الأجنبية، بل بدأ فعلياً فى استعادة عناصره وترتيب صفوفه استعداداً للفصل الجديد، وأكثر من ذلك حيث تمكن من تجنيد أعداد كبيرة من مناصرى «طالبان» القدامى الذين تشتتوا وتواروا منذ الإطاحة بالحركة. التقارير الأمنية بدأت فى الوقوف على أماكن بعينها باتت اليوم تحظى بالسبق والأفضلية عن أماكن أخرى، منها «كونار» وهى المقاطعة الشرقية التى زارها الرئيس الأمريكى جو بايدن عام 2008، حين كان يشغل منصب نائب الرئيس. لكن التقارير لم تقف عند حد هذه المقاطعة، بل هناك من ذهب إلى أن التنظيم فعلياً يتمتع بالحماية من قبل «طالبان»، وتمثل له الحركة غطاء اجتماعياً وأمنياً لحرية الحركة فى نحو (15 مقاطعة) أخرى، وهو يمثل نصف مساحة أفغانستان وتشى بحجم من المخاطر لا حدود له. ويستدل على حجم وشكل هذا الارتباط بعدد من قيادات «القاعدة» جرى استهدافهم من قبل القوات الأمنية الأفغانية، حيث تبين وجودهم فى مناطق خاضعة بشكل كامل لسيطرة وإدارة الحركة، منهم فى مارس الماضى القيادى «أبومحمد الطاجيكى» الذى قتل وهو برفقة «حضرة على» أحد قياديى طالبان فى ولاية «بكتيكا». وأعلنت القوات الأفغانية حينها أن تلك العملية الأمنية هى الثالثة منذ توقيع اتفاق الدوحة العام الماضى، التى تنجح فى استهداف قياديين من «القاعدة» مع كبار القادة فى حركة «طالبان». الإدارة الأمريكية الجديدة ماضية فيما قررته مؤخراً، فهل نحن أمام «قُبلة حياة» طويلة ومركزة فى حال تمكنت «القاعدة» من الوقوف بثبات مرة أخرى على الأراضى الأفغانية التاريخية للتنظيم، بالنظر إلى جميع المؤشرات التى ترجح ذلك بقوة؟!