من دفع الثمن غير من تاجر في وطن

بقلم: فاروق جويدة

أمام الصخب الإعلامي والمعارك الوهمية التي استنزفت قدراتنا ومواردنا وسرقت أيامنا وجعلت منا أضحوكة أمام الآخرين غابت قضايانا الحقيقية وتضاءلت في عيوننا حتى تلاشت رغم انها في الحقيقة تمثل أهمية لا حدود لها.. سوف أتوقف اليوم عند قضية شائكة هي في تقديري تحتاج إلى مواجهة صريحة مع النفس أولا ثم بعد ذلك نطرحها في حوار أوسع، والسبب في ذلك ان مثل هذه القضايا جديدة علينا ولم تكن يوما من الأيام تمثل خطرا على الواقع المصري رغم كل تناقضاته.. القضية التي تشغلني – وأنا لا أريد في الحقيقة ان اسىء لأحد بسببها ولا أريد ان تناقش من خلال مفهوم شخصي – هي قضية النضال من الخارج.. ولابد ان أعترف من البداية انني لا أعترف بالنضال خارج الحدود والأوطان وأرى ان المناضل الحقيقي لا يترك أرضه ولا يقبل ان يحارب وطنه بسيوف الآخرين وأموالهم، هذه القضية تشغلني الأن كثيرا لأن مصر لم تعش يوما هذه التجربة بهذا العدد من الأشخاص الذين اختاروا هذا النهج وهذا الأسلوب في المعارضة ولنا ان نسميها تجاوزا النضال رغم ان صفة المناضلين لا تنطبق على الكثير من هؤلاء الذين اختاروا هذا الطريق.. أقول.. ان مصر لم تشهد في تاريخها هذا الهروب الكبير تحت راية النضال هذا من حيث العدد.. أقصى ما وصلنا إليه في العصر الحديث حين حدث الخلاف بين الرئيس الراحل أنور السادات وقوى اليسار المصري والناصريين ان بعضهم هاجر إلى لندن وأصدر صحيفة تهاجم السادات وحكمه والبعض الآخر استغل خلافات السادات مع صدام حسين والقذافي واختار العراق وليبيا موطنا.. كان العدد قليلا جدا وكانت المهمة سهلة ان يكتب المناضل مقالا أو يتحدث في برنامج.. وبجانب هذا فإن هذه الفرق النضالية لم تسلك العنف ولم تشارك في جرائم قتل أو عدوان على الوطن ولم تدع الناس إلى إعلان الحرب على الجيش أو الشرطة واستحلال دمائهم.

 

> في عهود أخرى قديمة هاجر بعض الأشخاص منفيين من بلادهم في عهود الاستعمار كما حدث مع سعد زغلول ومحمد فريد ومصطفى كامل وقد اختار هؤلاء ان يخوضوا نضالهم من أجل حرية أوطانهم في معاقل الإستعمار نفسه وكانوا بالفعل أصحاب قضية ورموز وطن ونضال وكانت مواقفهم ملحمة وطنية عظيمة عاشت في وجدان الشعوب.. ان أخطر ما نراه الآن في الحشود المناضلة خارج مصر انها خليط في الفكر وتجمع تناقضات كثيرة تجعل منها أشباحا مشوهة فهي دينية وليبرالية وعلمانية وسلفية وهي قبل ذلك تبدو في النهاية بلا قضية.

 

> وإذا كنت أرى ان من حق أي إنسان ان يدافع عن قناعاته وفكره ومواقفه فلا ينبغي ان يكون ذلك بعيدا عن ثلاث لاءات تحكم سلوكه.. لا وصاية لأحد على قناعاته وأفكاره.. ولا حقوق لصاحب مال يشتري به فكرا أو موقفا، ولا استجابة لدعوات تحرض على القتل والموت والدمار.. هذه الثلاثية وهذه اللاءات يجب ان تحكم من البداية سلوك من اختار وطنا غير وطنه، لكي يعلن الرفض والعصيان فيه.. الا يكون بوقا لأحد خاصة أمام صراعات المصالح والقوى التي تبحث عن دور وعن هيمنة وأذناب يروجون لها والا يمد يده لأموال مشبوهة ملوثة والا يدفعه المال ان يحرض على العنف والقتل والإرهاب.. من هذا المنطلق ينبغي ان يكون الحساب بيننا وبين من اختاروا النضال عن بعد، انها الوصاية والمال والتحريض خاصة ان وصاية الفكر هي أسوأ أنواع الإحتلال البشري..

 

> أقول ذلك وأنا أتابع الحشود المصرية التي هربت من السفينة بعد 30 يونيو واختارت ان تمارس دور المعارضة عن بعد وكما قلت ليس هناك خط فكري يجتمعون عليه وليس هناك هدف واحد يلتقون حوله انها شراذم فكرية وسلوكية بعضها لا ننكر يمثل فكرا حقيقيا والبعض الآخر يبحث عن سبوبة نضالية يتخفى وراءها من أجل فرصة ثراء أو غنى أو إدعاء بطولة رغم انه يعلم ان المال حرام وان القضية خاسرة..

 

اختارت حشود النضال المصرية ان يذهبوا إلى بلاد تعادي وطنهم وتعلن ذلك أمام العالم كله وتدفع الأموال وتدبر المكائد وتصنع المؤامرات ضد مصر وشعبها في خمسينيات القرن الماضي حين اشتد الخلاف بين الإخوان المسلمين والزعيم الراحل جمال عبد الناصر هاجر الكثيرون منهم إلى دول الخليج والسودان وليبيا ولم يتحولوا إلى قوى عدوانية ضد وطنهم ولكن حشود هذه الأيام انطلقت أصواتهم ودعواتهم للقتل من قناة مأجورة تسمى الجزيرة أو من دولة مثل تركيا تدعي الإسلام وهي تحرص على قتل المسلمين في كل مكان بل انها لا تتردد في دعم أكبر تنظيم إرهابي يهدد أمن المسلمين كل المسلمين وهي حشود داعش الإرهابية..

 

> كيف يمكن لعاقل ان يقتنع أن ما يحدث قضايا فكر ونضال من أجل الحرية وكيف يقبل مواطن مصري ان يستخدم كوسيلة مأجورة فيدعون إلى قتل قوات الجيش والشرطة.. وما سر هذا العداء بينهم وبين جيش مصر وهو حصنها الأمين وماذا أخذت حشود المعارضة من كل هذه الأعمال الإجرامية.. هل من النضال ان يشمت المناضل في ضحايا وطنه وهل من النضال ان يحتفل المناضل باحتراق مؤسسات بلده.. هل من النضال ان يحرض المناضل الدول الأجنبية ان تفرض الحصار بكل أشكاله على بلاده وهل من النضال ان تقيم المعارضة عرسا حين يسقط المئات من الضحايا أمام أعمال إرهابية تقتل المسالمين وتشرد البسطاء وتحرق المدن.. هل من النضال ان استأجر الإعلام الأجنبي المشبوه لكي اشوه صورة وطني هل يعقل ان اسكن فندقا رهيبا واحصل على ملايين الدولارات لكي أبيع وطني، لكل مغامر يسعى إلى تخريب وتدمير كل شئ فيه..

 

هل يمكن ان أكون بوقا محرضا على القتل والتخريب باسم الوطنية والانتماء.. إذا كانت هناك حسابات مع أشخاص فكيف تتحول إلى جرائم ضد الشعوب وإذا كانت هناك جوانب خلاف بين قوى سياسية في الفكر والمواقف فماذنب ملايين البسطاء وماذنب أهالي سيناء وما هي الجرائم التي ارتكبها جندي في جيش مصر يدافع عن ترابها ضد الإرهاب حتى يحمل له المناضلون كل هذه الكراهية وكل هذا الحقد.. لو ان هؤلاء المناضلين ترفعوا عن المال ورفضوا الوصاية من أحد واختاروا المعارضة السلمية حتى من الخارج ورفضوا أساليب التحريض ودعوات القتل والحرائق ولم يحرضوا على قتل الجنود وهم حماة الوطن لقلنا انها معارضة سلمية مشروعة حتى ولو جاءت من خارج الوطن.. لو ان أيديهم لم تجمع المال الحرام من دول وحكام مشبوهين ولم تتلوث بدماء الأبرياء لقلنا انها قضايا فكر وحريات ولكن كل شئ يحدث أمام الجميع الأموال تتدفق على الشاشات والوصاية تفرض على كل الحشود في الفكر والسلوك والمصالح وقبل هذا كله هناك ملفات قتل وتدمير وخراب تبدأ بمؤامرة واضحة المعالم بإغتيال النائب العام وتنتهي عند مئات الجرائم في تفجير المؤسسات وأجهزة الأمن والشرطة.

 

في أي تاريخ كانت هذه الأساليب النضالية في حياة المصريين الذين أحبوا تراب بلدهم ولم يتركوه لحظة.. في أي تاريخ وضع المناضلون أيديهم في يد أعداء وطنهم من المتآمرين وأصحاب المصالح والوصاية والفكر المشبوه.. كان المصريون دائما يختارون واقعهم وتراب أرضهم حتى ولو كانت ضد سلطات القمع والقهر..

 

لقد قاوم المصريون كل ألوان الإحتلال والاستعمار ودفعوا الثمن وهم في أوطانهم.. كان المصريون قديما على استعداد ان يدفعوا الثمن مهما كان غاليا ولم يكونوا يوما باحثين عن الثمن حتى لو كان مغريا..

 

لقد شاهدت أكثر من مرة أحد المشايخ وهو يرفع يديه إلى السماء ويدعو على شعبه كيف طاوعه قلبه إذا كان بالفعل مؤمنا ان يدعو على فقراء وطنه الذين شوهتهم أزمنة القهر والجوع والاستبداد.. ان أسوأ الأشياء في الإنسان ان يفقد البصر والبصيرة فلا يفرق بين شخص يكرهه وبين شعب ينتمي اليه.. لقد تشوهت صورة الانتماء والولاء والمواطنة فقد كنا في زمن مضى نفرق دائما بين مستنقعات السياسة وبين منابع الوطنية اننا يمكن ان نختلف في الأفكار ولكن لا ينبغي أبدا ان نشوه مقاييس الوطنية وثوابت الانتماء وحين يختار الإنسان ان يكون بوقا سياسيا فلا ينبغي أبدا ان يخلط بين السياسة والوطنية ويتصور انه يعارض أو يرفض تحت لواء الوطنية، ان الوطنية تجمعنا ولا تفرقنا أبدا.

 

> أعلم انني بهذه الكلمات فتحت جرحا غائرا واثرت قضية شائكة على درجة كبيرة من الحساسية ولكنني أتحدث عن قناعات شخصية ومواقف وطنية آمنت بها طوال عمري ان النضال في الوطن وليس خارج أرضه وان المعارضة لا ينبغي ان تكون لهدف مشبوه أو غاية مريضة.. وان الانتماء الحقيقي ليس بالأغاني والخطب.. وان الوطنية شئ يختلف تماما عن المزادات السياسية، ان حشود النضال التي تدعو الشباب الأن للرحيل عن الوطن أو تدمير مؤسساته ومقاومة جيشه دعوات مشبوهة لأنها تستغل ظروف شعب قام من كبوته ويسعى لأن يمضي للأمام ويتجاوز محنة التخلف والقهر والطغيان هناك أقلام كثيرة داخل مصر وفي صحافتها كل يوم تهاجم النظام الحالي ولم يمنعها أحد بل انها أحيانا تتجاوز كل شئ في حقدها وكراهيتها ولا ترى نقطة ضوء في كل ما يجري في مصر الآن.. ومازالت تمارس حقدها القديم وتحركها أغراض مشبوهة.

 

> لا أطالب المناضلين في الخارج ان يعودوا ولكن أطالب بأن يكونوا أصحاب فكر حقيقي ومواقف تنطلق من قناعاتهم الوطنية والأخلاقية والا يتركوا أحدا يفرض عليهم موقفا أو وصاية والا يتحولوا إلى أبواق ودعاة تخريب في يد أعداء الوطن.. هناك حسابات جديدة تدبرها قوى دولية من أجل مستقبل مرسوم للعالم العربي ولا أعتقد ان هذه الدول ستكون حريصة على مستقبلنا وأحلامنا انها قوى تتصارع على غنيمة مسمومة لوثتها الحروب الأهلية والدم والموت والدمار وإذا كانت تدفع اليوم الملايين لهذه الحشود التي تقاتل وتناضل من المقاهي والفنادق فهي تبحث عن مصالحها وأهدافها وهي أهداف مشبوهة.

 

> كان المصري قديما لا يترك وطنه أبدا مهما كانت الظروف والأحوال ولكننا الأن ننتشر في بلاد الله نرفع راية النضال بالكذب والتدليس ودعوات القتل ضد أوطاننا والوطن أحق بأن نعيش فيه وندافع عنه حتى نحقق أحلامنا في الحرية والأمن والرخاء.. هناك فرق كبير بين مناضل بقى في وطنه حتى لو دفع الثمن وبين من يدعي النضال وهو يدور في العواصم والبلاد يتاجر في وطن.

 

رغم تقديري الشديد لقيمة عظيمة اسمها النضال إلا انني على يقين ان من دفع الثمن في وطنه غير من هرب بعيدا وتاجر فيه.

 

..ويبقى الشعر

 

عودُوا إلى مصْر ماءُ النـِّيل يكفينـَا

منذ ارتحلتمْ وحزنُ النهْر يُدْمينــــا

أيْن النخيلُ التى كانتْ تظللـَنــــــــا

ويرْتمى غصْنـُها شوقـًا ويسقينـَا ؟

أين الطيورٌ التى كانتْ تعانقـُنــــــا

وينتشى صوْتـُها عشقـَا وَيشجينا؟

أين الرُّبوعُ التى ضمَّتْ مواجعَنـَـا

وأرقتْ عيْنها سُهْدًا لتحْمينـــَــــا ؟

أين المياهُ التى كانتْ تسامرُنــــَــا

كالخمْر تسْرى فتـُشْجينا أغانينـَا ؟

أينَ المواويلُ ؟..كم كانتْ تشاطرُنـَا

حُزنَ الليالـى وفى دفْءٍ تواسينـَـــا

أين الزمـــــــانُ الذى عشْناه أغنية

فعانــقَ الدهـْــرُ فى ودٍّ أمانينـــَـــــا

هلْ هانتِ الأرضُ أم هانتْ عزائمنـَا

أم أصبـحَ الحلمُ أكفانـًا تغطـِّينــــــــَا

جئنا لليلـــــــى..وقلنا إنَّ فى يدهَا

سرَّ الحيَاة فدسَّتْ سمَّهــــــــا فينـــَا

فى حضْن ليلى رأينا المْوت يسكنـُنـَا

ما أتعسَ العُمْرَ..كيف الموتُ يُحْيينا

كلُّ الجراح التى أدمتْ جوانحَنـــــَــا

وَمزقتْ شمْـلنـــا كانتْ بأيدينــــــــــَـا

عودوا إلى مصْر فالطوفانُ يتبعكـُــمْ

وَصرخة ُ الغدْر نارٌ فى مآقينـــــــَــا

منذ اتجهْنا إلى الدُّولار نعبــــُــــــدُهُ

ضاقتْ بنا الأرضُ واســودتْ ليالينــَا

لن ينبتَ النفط ُ أشجارًا تظللنـــــــَـا

ولن تصيرَ حقولُ القار..ياسْمينــَا

عودوا إلى مصْرَ فالدولارُ ضيَّعنــَا

إن شاء يُضحكـُنا..إن شــاءَ يبكينـَـا

فى رحلةِ العمْر بعضُ النـَّار يحْرقنا

وبعضُهَا فى ظلام العُمْر يهْدينـــــــَا

يومًا بنيتمْ من الأمجَـــــــاد مُعجزة ً

فكيفَ صارَ الزَّمانُ الخصْبُ..عنينا؟

فى موْكبِ المجْد ماضينا يطاردنـــَا

مهْما نجافيهِ يأبى أن يجَافينــــــــــَـا

ركبُ الليالى مَضَى منـــــــا بلا عَدَدِ

لم يبق منه سوى وهم يمنينـــــــــَا

عارٌ علينا إذا كانتْ سواعدُنـــــــــَا

قد مسَّها اليأسُ فلنقطـعْ أيادينــــــَا

يا عاشقَ الأرْض كيفَ النيل تهجُرهُ ؟

لا شىءَ والله غيرُ النيل يغنينـــَـا..

أعطاكَ عُمْرا جميلا ًعشتَ تذكـــرهُ

حتى أتى النفط بالدُّولار يغـْرينـــــَا

عودوا إلى مصْرَ..غوصُوا فى شواطئهَا

فالنيلُ أولى بنا نـُعطيه..يُعْطينــَـا

فكسْرة ُ الخـُــبْـز بالإخلاص تشبعُنـا

وَقطـْرة ُ الماءِ بالإيمَــــان ترْوينـَـا

عُودُوا إلى النـِّيل عُودُوا كىْ نطهِّـرَهُ

إنْ نقتسِمْ خـُبزهُ بالعدْل..يكـْفيــنـَا

عُودوا إلى مِصْرَ صَدْرُ الأمِّ يعــرفـُنــــــا

مَهْمَا هَجَرناهٌ.. فى شوْق ٍ يلاقينــَــا

 

قصيدة “عودوا إلى مصر” سنة 1997

 

نقلا عن جريدة الأهرام