كواليس الضغوط الإقليمية والغربية: الموقف المصري من عملية إعادة تقديم “الجماعة”      

بقلم: محمد عبدالهادي علام

لا نملك إزاء كثير من التطورات والتفاعلات الحالية في منطقة الشرق الأوسط سوى أن نراقب ونرصد ونتعامل بحذر شديد مع أحداث تتشابك فيها المواقف وتختلط الأوراق، فبعد قرابة ثلاث سنوات من وضع نهاية لمشروع تمكين جماعة الإخوان المسلمين الجماعة الأم لتنظيمات الإسلام السياسي في مصر والعالم الإسلامي، مازالت قوى دولية ترى في نهاية المشروع صدمة بدأتها مصر بجراءة لم تكن متوقعة، ولم يكن أحد في أجهزة صناعة القرار في الغرب يحسب لها.

 

وبعد مرور شهور طويلة على الثورة الشعبية في مصر، وجدت التنظيمات الإقليمية التي خرجت من عباءة الإخوان أن عملية الضغط من أجل إعادة إنتاج الجماعة الأم إلى السلطة أو إلى الساحة السياسية مسألة فاشلة بامتياز لا تلقى قبولا شعبياً في مصر وفي الدوائر الإقليمية التي تدعم موقفنا من تنظيمات همجية متخلفة، فردت بمحاولة تقديم تلك التنظيمات في صورة جديدة تبدأ بالاعتراف “المضلل” بوجود مراجعات جدية لمواقفها في السنوات التي تلت موجة ما سمي بالربيع العربي، وإعادة تقييم مواقف ملتبسة حول الديمقراطية والحريات العامة والعلاقة بين ما هو “دعوي” وما هو “سياسي” والنقطة الأخيرة هي مسار النقاشات حاليا بين تلك التنظيمات الدينية التي تعمل بالسياسة وبين الدول الغربية التي تتعاطف معها وتراها بديلا للأنظمة أو تراها تملك مشروعا يتفق مع رؤية العواصم الغربية للتطور السياسي والاجتماعي في العالم العربي… وأعني بالمشروع تلك الأفكار الغريبة الخبيثة التي ترى في المشروع السياسي لتلك الجماعات أمراً واقعا لا يمكن الهروب منه، بدعوى أن البدائل المدنية الحديثة غير قابلة للاستقرار في التربة العربية والإسلامية.

 

في هذه الأجواء تواجه مصر بكل حزم وثبات تلك الرغبة الدفينة لدى البعض، في الداخل والخارج، لإعادة الأوضاع إلى نقطة القبول برجوع الجماعة الإرهابية إلى المسرح السياسي، ويقول مسئولون غربيون وأتراك، ومن يدافعون عن الجماعة من العرب، إن هناك حاجة لاستيعاب أو احتواء، وليس شرطا دمج، الجماعة في العمل السياسي مجددا ويدللون على رؤيتهم بمحاولة الترويج لتجربة تونس التي تقوم حركة النهضة فيها بأكبر عملية دعائية للتنظيمات التي خرجت من فكر جماعة الإخوان من أجل تحسين الصورة واللعب على أوتار المصالحات الوطنية.

 

لم أشأ هنا أن أكتب عن شأن داخلي تونسي، ولم أرد أن نتحدث عن تجربة لا تخصنا، ولكن ما جرى في مؤتمر حزب النهضة الإسلامي مؤخرا يدفعنا إلى مناقشة الأمر حتى يعرف الرأي العام أن هناك تفاصيل كثيرة تغيب عن القارئ.

 

في السياق العام التونسي المسألة مختلفة، حيث الحياة السياسية تملك حيوية أكبر بكثير مما كان لدينا قبل 30 يونيو، وحيث القوى المدنية تملك مشروعا صلبا في مواجهة تيار الإسلام السياسي، ووعيا انتخابيا ظاهرا، كان على حركة النهضة أن تراجع مواقفها وتتراجع خطوة إلى الوراء وتقدم رؤية تقول إن الفصل بين السياسي والدعوي في الحياة العامة أمر ضروري خاصة بعد انتكاسات انتخابية متتالية، وهي خطوة قابلة للتقييم الإيجابي أو السلبي من الشعب التونسي نفسه.

 

في الحالة المصرية، كان عام الإخوان في الحكم كارثيا بكل معنى الكلمة، ولم يكن التنظيم قادرا على قراءة الواقع تماما، وهو ما أسفر عن مواجهة بين المجتمع بكل فئاته وطوائفه وبين الجماعة التي أرادت تأميم الحياة السياسية بعد أن وصلت إلى سدة الحكم، اعتمادا على شعارات دينية خالصة، ترى في سياسات الجماعة عين الصواب وحده، وترى غيرها مجرد أدوات لتحقيق حلمها بالانفراد بالحكم إلى أمد غير معلوم، وقد أعدت العدة للسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة بعد أشهر قليلة من وصولها إلى الرئاسة وقبلها البرلمان، وهو ما فطن إليه الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا وخرج ليقتلع الجماعة من جذورها… أما مايسمى النخب السياسية والليبرالية فقد أسهم في تسليم البلد لتلك الجماعة.

 

مازالت دوائر خارجية ترى في مواقف مصر الرسمية تشددا تجاه الجماعة ومن يدور في فلكها، ورد مصر الرسمي دائما يستند إلى قاعدة شعبية عريضة، وليس ردا يقوم على اختيارات أقلية مثلما سعت الجماعة الإرهابية إلى فعله في السابق. وليس سرا أنه عندما يدور حوار الآن وفي الفترة الماضية بين المسئولين المصريين ونظرائهم في دوائر غربية وعربية عن الموقف من الجماعة يأتي الرد المصري دائما متسقا من قناعات ترسخت لدى الغالبية من المصريين بأن الشعب هو من يقرر موقفه، ولدينا رئيس منتخب وتفويض سبقه لمواجهة الإرهاب في يوم تاريخي هو 26 يوليو عام 2013، وأن ما جرى في الأعوام الثلاثة الماضية من خروج صارخ من الجماعة على القانون، ورفضها الإرادة الشعبية وانخراطها في أعمال دموية ضد المدنيين والجيش والشرطة وارتكاب فظائع، ومحاولة هدم المقومات الإقتصادية من أجل استنزاف طاقة الحكم والشعب ـ لا يرد عليه سوى بالرفض القاطع لإعادة دمج جماعة مجرمة في الحياة السياسية، وقياداتها متورطون بوضوح في أعمال عنف، ويقفون خلف القضبان ينتظرون كلمة القضاء، وحكم على الكثيرين منهم بأحكام رادعة جزاء ما فعلوه من تحريض وتوجيه بالقتل والتخريب والتدمير.

 

كما أن المرونة التي أظهرتها قيادات حركة النهضة التونسية لا يمكن مقارنتها بما يجري في مصر، فالقيادات الإخوانية قابلت التيار الشعبي الجارف ضد حكمهم بصلف وغباء سياسي منقطع النظير، وفور سقوط حكمهم لم يصدر عنهم بيان واحد يعلي صوت العقل بل الأكثر خطورة هو رصدهم أموالا طائلة للقتل والتدمير، وهناك براهين وأدلة كثيرة على تحالفهم مع جماعات دموية أخرى مثل داعش وأنصار بيت المقدس من أجل إشاعة مناخ من الرعب والدمار في المجتمع المصري. فعن أي تسوية يتحدثون وعن أي رجوع أو فرصة جديدة تطالب بها دول في الإقليم والغرب ممن يتجاهلون كوارث جماعات الإسلام السياسي، وأي سخف يريدون ترويجه لمصلحة شركائهم في الخراب! فالجماعة الإرهابية لن تعود من بوابة السياسة من جديد، لأن المجتمع المصري قد أصدر حكمه على من سفك دماء أبنائه ويحاول أن يحيل حياته إلى جحيم. فلن يرضى المجتمع المصري أن يجلس قتلة ومجرمون، منهم من يتآمر في الخارج علانية على منصة مؤتمر حاشد للجماعة، مثلاً، من أجل تقديم أنفسهم من جديد في موسم مراجعة خائب ومكشوف مثلما يريد البعض. ومن يقول إن السياسة تحمل كثيرا من المتغيرات ولا يمكن القول بثبات الأحوال.

 

نقول لهم إن تلك مقولات تنطبق على من يعارضون أو يمارسون السياسة بالطرق السلمية والمشروعة، وليس من يرفعون السلاح ويخربون مؤسسات الدولة، ويحاولون الفتك بالجيش والشرطة، فمثل تلك الأفعال ستندرج تحت مسمى التنازل أو الإذعان أو الرضوخ لقتلة مأجورين ولا علاقة له بالسياسة في شكلها الطبيعي.

 

وحتى في الحالة التونسية علينا الانتظار ورؤية كيفية تطبيق فصل السياسة عن الجانب العقائدي في ممارسات حزب النهضة، وهو ما سيتضح في الاستحقاقات الانتخابية القادمة وفي الخطاب السياسي وموقفه من الأخر المختلف أو غير المنتمي لتيارات الإسلام السياسي. فالتجديد والإقرار بالأخطاء والاعتذار عنها والقبول بالمحاسبة هي عصب المراجعات، ولا يكفي أن يقف زعيم الحركة راشد الغنوشي معلنا عن نهاية تجربة الإسلام السياسي في شكلها الحالي حتى نصدق ونقول “آمين” ولا نعود إلى أدبيات “التقية” والانسحاب التكتيكي وغيرها من أساليب المناورة السياسية التي أدمنتها الجماعة وفروعها مدة أكثر من ثمانية عقود.

 

نعلم أن عواصم غربية، في مقدمتها واشنطن ولندن، تبحث بشكل مكثف في تلك الأيام عملية إعادة تقديم الجماعة وروافدها إلى الواجهة السياسية في أكثر من دولة لدوافع عديدة، منها رد الجميل لتيارات الإسلام السياسي التي تحالفت مع الدول الغربية الكبرى على مدى أكثر من أربعة عقود، ورغم ما حدث في 11 سبتمبر في الولايات المتحدة ظلت العلاقة بين تلك التيارات والدول المؤثرة في سياسات الشرق الأوسط على حالها، وعندما جاءت موجة الربيع العربي قدمت جماعة الإخوان وفروعها نفسها باعتبارها القادرة على الإمساك بزمام السلطة في دول ضربتها الفوضى على أرضية تقوم على زواج الدين بالسياسة في المنطقة العربية في عقد أبدي لا تنفصم عراه، وبما يضمن احتواء التيارات الإسلامية العنيفة التي تهدد المصالح الغربية، رغم أنهم عمليا لم يكونوا يوما خطرا على المجتمعات الغربية!

 

وليس خافيا مواكبة هذه العملية لتحركات التنظيم الدولي للإخوان في الفترة الأخيرة لإعادة تنظيم المكاتب المختلفة للتنظيم في الداخل والخارج بتعاون وثيق مع أجهزة استخبارات دولية تسير وفقا لرؤى معينة في التعامل مع الشأن الداخلي المصري، وهي مسألة تتكشف الآن بوضوح، وفي ضوء المعلومات المتوافرة لدينا تسعى بعض الجهات والأطراف المعنية بدعم الجماعة الإرهابية إلى تحريك مجموعات موالية في بعض مؤسسات بالدولة من أجل تحقيق هدف زعزعة استقرار الحكم وإثارة بؤر توتر سواء باستغلال أزمات أو افتعالها كأزمات فتنة طائفية أو صدام بين المؤسسات. وهناك مواقع وقنوات ممولة من دول تقوم بالمهمة بشكل ممنهج، ولولا قوة وصلابة الدولة المصرية لكانت تحركات وأفعال هؤلاء الأقزام قد أسفرت عن قلاقل كبيرة.

 

أيضا، الأحاديث المتواترة عن انقسام داخل السلطة في مصر، وصراعات بين الأجهزة والترويج المستمر للأمر في الإعلام الغربي لا أساس له، ويبني على شواهد فاسدة غير منطقية، وعلى تفسيرات متوهمة لشخصيات تجلس في فنادق أو منتجعات تنفق عليهم أجهزة دول معادية للنظام السياسي، ويستغلون شبكات التواصل الاجتماعي لنشر أخبار وتقارير كاذبة ويساعدهم الإنفاق الضخم من عواصم بعينها في شيوع تلك التقارير.

 

إن حجم التهديدات والتوقعات التي يبنيها البعض على تدهور الأوضاع في مصر يستوجب علينا جميعا تبني “منهج الرشد” في التعامل مع الوضع السياسي والإقتصادي والعلاقات الخارجية التي يريد خصوم السلطة تخريبها من أجل محاصرة مصر، ولكنهم لا يعلمون أن بلدا بحجم مصر لا يقبل التجزئة ولا يقبل الحصار. إن الحصار هو وهم في عقول المرضى من الجماعة الإرهابية وفي عواصم تحمل كرها غير مبرر للأوضاع في مصر.

 

كثير مما يجري، بما فيه حوادث غامضة، تشهد اتساعا للشكوك حول الفاعلين أو المتورطين، يقول إن هناك محاولة للضغط لإعادة استيعاب جماعات الإسلام السياسي في النظام السياسي المصري من جديد، ومنحهم مساحات أكبر في العمل العام وهو ما يعني أن بعض القوى والجماعات لا تستسلم ولا تريد أن تستوعب المناخ السياسي في مصر بعد ثورة 30 يونيو، فهم واهمون أن الشعب محكوم رغما عن أنفه! وهم واهمون في تصوير الأوضاع بالاستبدادية والترويج للأمر عبر شبكات من الصحف والقنوات التليفزيونية ومراكز الأبحاث! وهم واهمون لأنهم يرون في عودة جماعة فاشية إلى العمل السياسي إثراء للتجربة، بينما واقع الحال يقول إن أدبيات تلك الجماعات بعيدة تماما عن القبول بالديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، لأنهم يحكمون بتفويض من السماء حسب أوهامهم التي صدروها إلى كل العالم الإسلامي، ولم نجن منها سوى الخراب والدمار والعنف والدم.

 

في الختام أقول إن تغيير المسميات أو اللافتات لا يعني تغييرا للأفكار دائما، والعودة إلى الحياة السياسية لأي فصيل يشتبه في انتهاجه العنف أو التحريض عليه تحتاج إلى تدقيق شديد ومراجعات شاملة تحت سمع وبصر المجتمع، ولا يعني القبول بمبدأ حق كل شخص في التعبير عن نفسه أن نعود مجددا إلى حالة الانفلات السياسي وتسخير الدين لأهداف سياسية وتعود الفاشية الدينية لتتصدر المشهد. فمصر التي تملك مؤسسات أعادت الأوضاع إلى نصابها في لحظة صعبة وفارقة، هي نفسها القادرة على وضع الأمور في نصابها وإنهاء أساطير فصائل الإسلام السياسي وهي معركة ليست هينة وتحتاج إلى ضمائر وطنية مخلصة وليس لمن يجرون وراء مناصب أو اصطناع بطولات أو نفوذ زائف على حساب الوطن!

 

نقلا عن جريدة الأهرام