هل نحن ضد الإسلام؟!

هل نحن ضد الإسلام؟!

بقلم ـ هاني عبدالله
فى مقدمة شرحه لكتاب «الموافقات: فى أصول الشريعة» لأبى إسحاق الشاطبى (المالكى)، لفت الشيخ الأزهرى «د. محمد عبد الله دراز» إلى أن الأستاذ الإمام «محمد عبده» كان يوصى تلاميذه – دائمًا – بمطالعة «موافقات الشاطبى»

توصية الأستاذ الإمام – وكذلك التفاتة الشيخ عبد الله دراز – لهما ما وراءهما.. إذ أراد «الأستاذ الإمام» من وراء تلك التوصية أن يلفت نظر تلاميذه إلى أن ما قدمه الشاطبى فى «الموافقات» – خلال القرن الثامن الهجرى – يُسهم بصورة مباشرة فى تأصيل منهج التجديد الدينى «المطلوب».. إذ كان ما قدمه «الشاطبى» فى الموافقات بمثابة ثورة فكرية «حقيقية» على طريقة التأليف المعتادة فى علم أصول الفقه.

.. وفى هذا السياق؛ يُمكننا إثبات الآتى:

(أ)- على غير عادة التأليف الأصولى، اكتفى الإمام الشاطبى بالقرآن والسنة (كأدلة للأحكام الفقهية) من دون تطرق أو إسهاب في شرح بقية الأدلة المتعارف عليها أصوليًّا (مثل: الإجماع والقياس والاستحسان.. وغيرها)؛ إذ انتقل بعدها مباشرة إلى كتابى: الاجتهاد ولواحقه.

(ب)- أعاد الإمام الشاطبى توجيه البوصلة – مرة أخرى – إلى أهمية الاعتماد على الدليل الأول (القرآن) فى استنباط الأحكام الشرعية، في مقابل شيوع «منهج التقليد»، الذى أعلى من شأن الآراء الفقهية على حساب النص الحاكم.

(ج)- فى طريقة تعامله مع الدليل الأول (القرآن)، استفاد الإمام الشاطبى من علوم القرآن كافة؛ لفهم النص وإدراك معانيه (لغويًّا وتشريعيًّا) .. مخصصًا بذلك الجزء الأكبر من الكتاب لهذا الغرض (على خلاف الأصوليين المتأخرين) ممن يكتفون – إلى اللحظة – بمختصرات (تشعرك بأنهم فى عجلة من أمرهم!) حول دليل القرآن.. وهى مختصرات لا تخرج فى جوهرها عن الإشارات التعريفية العامة.

(د)- تعامل الشاطبى – كذلك – مع السنة على أنها تابعة للكتاب، وشارحة له؛ إذ تتأخر رتبتها – يقينًا – عن الكتاب.. مقدمًا بذلك تصحيحًا للفهم المغلوط، الذى يصر عليه نفرٌ من السلفيين (إلى اليوم) حول عبارة: «السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة».. إذ تظل «السنة» هى المرتبة الثانية بعد «القرآن» فى تراتبية أدلة التشريع.

(هـ)- فتح منهج الشاطبى الأصولى بتلك الطريقة، الباب على مصراعيه أمام إعمال العقل الاجتهادى مرة أخرى.. وما يستتبعه هذا الأمر من التحلق حول القرآن (كأساس تشريعى)؛ للخروج من ركام الإرث الفقهى، الذى صرف نظر أهل الإسلام عن كتابهم الخالد.

■ ■ عبر الملاحظات السابقة، يُمكننا – جزمًا – أن نتفهم لماذا كان يصر الأستاذ الإمام (محمد عبده) على أن يطالع تلاميذه كتاب «الموافقات».. إذ ارتأى الشيخ أن منهج الكتاب يعود بالإسلام إلى صورته النقية الأولى (فى مقابل المناهج الأخرى، التى تجاوزت روح وجوهر التشريع لحساب اجتهادات بشرية، تصيب وتخطئ)..

.. أى أن العمل من أجل الإسلام وتجديده (لا العمل ضده)، كان يحتم من وجهة نظر الشيخ محمد عبده (ومدرسته الإصلاحية) في ترسيخ القناعة بـ«عموم القرآن وشموله»، ومركزيته الفعلية (لا القولية) كأساس أول من أسس الاجتهاد..

لذلك.. كان أن انعكست – تلك القناعة (فى جانبها التطبيقى) على فهم الأستاذ الإمام وتفسيره للقرآن إلى حد بعيد؛ إذ كان العقل (المتماشى مع روح النص لا منطوقه)، هو ركيزة «الإصلاح الدينى».. إذ اعتمد منهج الإمام محمد عبده فى تفسير القرآن على شمولية النص.. وهو ما كان له بدوره عدد من السمات الأخرى، منها:

1 إنَّ معانى القرآن عامة وشاملة وإرشاده مستمر إلى يوم القيامة، فلا يحمل وعظه ووعده ووعيده على أشخاص بأعينهم؛ وإنما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التى توجد فى الأمم والشعوب».

.. وكثيرا ما كان يتوسع الأستاذ الإمام فى معنى الآيات أو يحمل النظير على النظير؛ ليطبق القرآن على ما هو واقع بين الناس، فهو إذ يفسر الآيات الواردة فى صفات المنافقين من أول سورة البقرة، يطبق هذه الصفات على المنافقين فى عصرنا، وفى كل عصر «فلا يغترن أحد بقول بعض المفسرين إن هذه الآيات نزلت فى المنافقين الذين كانوا في عصر النبى صلى الله عليه وسلم، فيتوهم أنها لا تتناوله وإن كانت منطبقة عليه؛ لأنه لم يتخذ القرآن إماما وهاديا، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خلقت له، بل اكتفى من ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه فى كل ما هم فيه.

2- لكل سورة من سور القرآن روح تسرى فى أجزائها وفكرة عامة تربط بين آياتها، وقد كانت فكرة التناسب والتناسق بين الآيات المتجاورة تسيطر عليه فى تفسيره وفى ترجيح بعض آراء سابقيه على بعض، بل ربما روى آراء السابقين من المفسرين ثم رفضها جميعها؛ لأنها لا تحقق التناسق بين الآيات.. فنراه يستهل تفسيره لسورة الفجر قائلا: «كثر الخلاف بين المفسرين والرواة فى معنى كل من الفجر وليال عشر، وقد يفسر الواحد منهم الفجر بمعنى، ثم يأتى في الليالى العشر بما لا يلائمه، وغالب ذلك يجرى على خلاف ما عودنا الله فى نسق كتابه الكريم».

.. ثم يفسر الفجر بأنه جنس ذلك الوقت المعروف الذى يظهر فيه بياض النهار فى جلد الليل، وينبعث الضياء لمطاردة الظلام.. ويفسر الليالى العشر بالليالى العشر الأول من كل شهر، وهى الليالى التى يُبتدأ فيها تكون الهلال، ولا يزال يشق الظلام إلى أن يغلبه فينشر نوره على الأفق، فكأنه وضع التناسب على شىء من التقابل، فضوء الصبح يهزم ظلمة الليل، وضوء الأهلة يغالب الظلام إلى أن يغلبه فيسدل على الكون حجبه.. ويميل الأستاذ الإمام إلى أن فكرة السورة يجب أن تكون أساسا فى فهم آياتها، والموضوع يجب أن يكون أساسا فى فهم الآيات التى نزلت فيه.. وكان هذا من أسباب رفضه كل تفسير لا يحقق التناسق والتوافق بين أجزاء السورة.

3 اعتمد الأستاذ الإمام على القرآن وحده فى إباحة التيمم للمسافر مع قدرته على استعمال الماء مخالفا فى ذلك جميع المذاهب، معتمدا على قوله تعالى: }وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا{ (النساء: 43)، وتكرر ذلك فى سورة المائدة آية 6، وقد شايعه فى هذه الطريقة تلميذه «رشيد رضا»، فاسترسل مؤكدًا أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يلتمس فيه أولاً فإن وجد فيه يؤخذ وعليه يعول، فإن لم يوجد الحكم في القرآن نلتمسه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول «رشيد رضا»: «سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم إن الآية واضحة المعنى على الوجه الذى قررتم، ولكنها تقتضى أن التيمم فى السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، ونقول لهؤلاء المقلدين: «إن ظاهر الآية متفق مع غيره من الرخص الشرعية للمسافر التى منها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر فى رمضان، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر فى ترك الغسل والوضوء، وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين»؟ .. «هل يقول منصف إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا فى السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه؟.. إن السفر مظنة المشقة يشق فيه غالبا كل ما يؤتى فى الحضر بسهولة، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء، وإن كان الماء حاضرًا مستغنى عنه».

ومما ينبغى مراعاته فى هذا المقام أن «الفقه الإسلامى» قد مر بمراحل يمر بها الكائن الحى وهى عصر النشأة وعصر الشباب، وعصر النضج وأخيرًا عصر التقليد.. وفى عصر التقليد التزم الفقهاء والمفسرون مذاهب أئمتهم وتعصبوا لها، بل حملوا القرآن عليها وفهموه فى ضوئها؛ فانتقد الإمام «محمد عبده» هذه التفاسير التى تقدم آراء المذاهب على كتاب الله، وبيَّن أن القرآن إمام غير مأموم وأصل وما عداه تبع له.

4 ذمَّ الأستاذ الإمام التقليد في تفكير المسلم المتأخر وأوجب الرجوع إلى فهم المسلمين الأولين للقرآن. ووجد أن آيات القرآن الكريم حافلة بالدعوة إلى استخدام العقل والفكر وحدث الإنسان على التأمل والنظر والاستنباط. كما ذم القرآن تقليد السابقين تقليدا أعمى لا تدبر فيه. قال تعالى: }وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون{ (البقرة: 170)، فالتقليد المذكور في هذه الآية قبيح مذموم، وقريب من هذا النوع عند الإمام، تقليد العلماء الذين يصرحون بأنهم مقلدون لا يلزمهم النظر في الكتاب والسنة، بل يعتمدون على ما كتب غيرهم في الفقه ويدينون لكتب المتقدمين على تعارضها وتناقضها ويكتفون بقولهم: وكلهم من رسول ملتمس. ومن أسباب ثورة الأستاذ الإمام على التقليد وندائه بضرورة الاجتهاد «أن الحياة الإنسانية للمجتمع الإنسانى حياة متطورة ويجد فيها من الأحداث والمعاملات اليوم ما لا يعرفه أمس هذه الجماعة، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة للملاءمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الإسلام. ولو وقف الأمر بتعاليم الإسلام عند حد تفقه الأئمة السابقين لسارت الحياة الإنسانية في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامى، وبقيت أحداث هذه الحياة في بعد عن تجديد الإسلام إياها، وهذا الوضع يحرج المسلمين في إسلامهم كما يحرجهم في حياتهم».

كلمة أخيرة:

إن النظر والتأمل والاستنباط مبدأ إيجابى، يجب ألا تُجهض إشراقاته.. فالقرآن الكريم حافل بآيات تدعو الإنسان إلى النظر في الكون وتدبر آياته وعجائبه، بل اعتبر القرآن الكون كتابًا مفتوحًا يجب على كل إنسان أن يتأمل فى عجائبه وقوانينه ونواميسه، قال تعالى: }قل انظروا ماذا فى السماوات والأرض{ (يونس: 101).