داعش تتقدم على السواحل الأفريقية

داعش تتقدم على السواحل الأفريقية

بقلم / خالد عكاشة
يوم الأثنين 29 مارس، أعلن تنظيم “داعش” السيطرة على مدينة “بالما” الساحلية في شمال موزمبيق، إثر هجوم بدأه يوم الأربعاء من الاسبوع الماضي تخللته اشتباكات مسلحة عنيفة، استمرت خمسة أيام وأوقعت عشرات القتلى والجرحى. في اليوم الثاني من هذا الهجوم شهدت المدينة ومحيطها، عمليات نزوح للآلاف من سكان المنطقة مستخدمين كافة السبل المتاحة، وفق ما أفاد شهود العيان الذين رصدوا عشرات الطوابير البشرية التي خرجت من المنطقة سيرا على الأقدام، لمن تعذر له توفير وسيلة نقل تضمن له الفرار من الجحيم الذي اندلع على نحو مفاجئ.
مدينة “بالما” الساحلية؛ تقع في محافظة “كابو ديلغادو” ذات الغالبية المسلمة، التي تحاذي دولة تنزانيا جارتها الشمالية، وتتعرض المحافظة لتهديدات وأفعال إرهابية مكثفة منذ العام 2017، بعد أن استطاعت “جماعة الشباب” المنشقة عن “أنصار السنة” في عام 2007 تنظيم صفوفها وتشكيلاتها، كي تصير تنظيما إرهابيا قادر على صناعة تهديد مسلح خطير، يستند على مرجعيات أيدولوجية متطرفة ويتحالف بشكل كبير مع عصابات الجريمة المنظمة. في العام 2019 أعلن تنظيم “جماعة الشباب” مبايعته لتنظيم “داعش” صراحة وقدم نفسه لـ”الساحة الجهادية”، باعتباره الفرع المعتمد والقائم على أعمال “شرق أفريقيا” بالوكالة من التنظيم الأم. ارتكب التنظيم عديد من الهجمات الإرهابية التي لم تخرج في معظمها عن منطقة تواجده الرئيسية، وهي المنطقة الساحلية الشمالية لموزمبيق والمتاخمة للحدود مع تنزانيا، حيث استفاد كعادة النشاط الإرهابي الأفريقي من هشاشة استحكامات الحدود العسكرية والأمنية، كي يتنقل ويناور عمليات الملاحقة الأمنية التي ارتفعت وتيرتها منذ العام 2017، بعد هجوم التنظيم بنحو (30 عنصر مسلح) على ثلاثة من مراكز الشرطة المحلية في مدينة “موكيمبوادابرايا”، وهي مدينة ساحلية تقع في ذات منطقة “كابو ديلغادو”التي استولى فيها التنظيم مؤخرا على احدى مدنها. وقد تمكن التنظيم في أغسطس 2020 من الاستيلاء عليها جزئيا بسيطرته على مينائها الرئيسي، الذي يشكل أهمية بالغة باعتبار استخدامه الرئيسي في نقل وإيصال المواد الغذائية والمستلزمات إلى المنشآت الغازية، الموجودة قبالة سواحل تلك المنطقة التي دخلها التنظيم ولا يبدو عليه أنه سيغادرها قريبا.

الهجوم الأخير نفذه التنظيم على مدينة “بالما” من ثلاث جهات في توقيت متزامن، حيث قام المسلحين في مشهد “كلاسيكي” متكرر في الساحة الأفريقية، بإحراق العديد من القرى بعد نهب محاصيلها وماشيتها وممتلكات أهلها المحدودة. وجرت وفق شهادات الفارين “قطع رؤوس” العشرات من الأهالي لترهيب السكان، فضلا عن عمليات خطف شباب وشابات من أجل تحفيز هروب الأسر خشية الوقوع في قبضة الأسر. مع استمرار عملية الهجوم المكثف لأيام؛ انتقل الاستهداف ليشمل مهاجمة الثكنات العسكرية ومقرات حكومية، من أجل ضمانة إحكام سيطرةعناصر التنظيم على كامل المدينة. تحصن موظفو المنشآت النفطية وأكثرهم من عمال شركة “توتال” الفرنسية وبينهم عمال يحملون الجنسيات الأجنبية، بفندق “أمارولا بالما” الذي سرعان ما تعرض لحصار كامل حيث يعتبرهم التنظيم غنيمة “رهائن” مثالية، لم يتقرر مصيرهم بعد خاصة بعد الإعلان الرسمي للتنظيم سيطرته على المدينة، في مقابل غياب ردة فعل رسمية من الدولة تكشف عن خطوتها القادمة إزاء هذا المتغير الخطير.
سيطرة التنظيم السابقة على ميناء “موكيمبوادابرايا” تعد خطوة هامة ومتقدمة، لكنها لا تقارن مع أهمية الاستحواذ على مدينة “بالما” ذات الموقع الاستراتيجي، الذي يبعد عن أكبر مشروع غازي في أفريقيا بنحو 10 كيلومترات فقط، وتقدر قيمته بمليارات الدولارات التي يشملها استثمار أجنبي ضخم بجوار الاستثمار والمراهنة الوطنية عليه بشكل كبير. هذا الكيان المتعثر منذ العام 2019 تحت وطأة تلك التهديدات الإرهابية، تديره شركة “توتال” الفرنسية لصالحها ولصالح دولة موزمبيق وشركاء دوليين آخرين، في النسق المعتاد لمثل هذه الشراكات التي تراهن على حصد المكاسب بعد حجم انفاق أولي ليس بالقليل. المفارقة الدالة في هذا الهجوم الأخير؛ أنه بدأ على هذا النحو المكثف بعد ساعات من إعلانشركة “توتال”، أنها ستستأنف العمل في مشروع الغاز الطبيعي المسال الذي يقع على مسافة كيلومترات خارج مدينة “بالما”. لذلك ربما جاء إعلان وزير الخارجية البرتغالي “أوغوستو سانتوس سيلفا” أن بلاده قررت إرسال عدد من الجنود التابعين لجيشها إلى موزمبيق، باعتبارها إحدى مستعمراتها السابقة ولازالت تتمتع بعلاقات استثنائية مع السلطات في “مابوتو” العاصمة.
الموقف معقد في مدينة “بالما” دون شك، ولن يقف المشهد عند حد اعلان سيطرة “داعش” على المدينة التي يقدر عدد سكانها بنحو (75 ألف نسمة)، هؤلاء يكتنف مصيرهم الغموض بشكل كبير فضلا عن العاملين القادمين من خارج مقاطعة “كابو ديلغادو”، منهم أصحاب الجنسية الموزمبيقية وآخرين من الأجانب الفنيين، شهود عيان ومقاطع مصورة بالهواتف المحمولة نقلت مشاهد لجثث ملقاة على الشاطئ مقطوعة الرؤوس، فهناك المئات من حاولوا الفرار من جحيم الهجوم الإرهابي عبر البحر بقوارب الصيادين المحليين، لذلك لجأوا للاختباء على الشاطئ ليلة الجمعة وتم إجلاؤهم على متن القوارب صباح السبت، واستمرت عمليات الإنقاذ المحمومة تجري على مدار الساعة حتى مساء الأحد، فهناك زورق تم استقباله في مدينة “بيمبا” الساحلية جنوب “بالما” بنحو 250 كم كان يقل حوالي (1500 شخص)، ونشطت وكالات الإغاثة كي تتمكن بامكانيات المنطقة المحدودة وفي ظل مناخ محفوف بالمخاطر، من تقدم أشكال مختلفة للعون من أجل إنقاذ حياة الأهالي بأي طريقة متاحة، قبل أن يسقط الفارين في قبضة التنظيم الذي يلاحق الجميع دون استثناء، ويحرص وفق عقيدة تنظيم “داعش” أن يمارس التنكيل الوحشي بحقهم، من أجل ضمانة إرهاب الآخرين على أكبر نطاق ممكن.
لكن تبقى اشكالية كبيرة تتمثل في أن عمليات الإخلاء التي تتجاوب مع شعور السكان بالخطر الداهم، في جانب آخر منها تشكل إفساح واسع للأرض وتخلي المشهد من أي تواجد حكومي أو أهلي، لصالح التنظيم الذي يحقق إفادة كبيرة من هذا الأمر وقد يتطور الأمر على نحو متسارع، ليصير ويترسخ تواجد “داعش” على شريط ساحلي ليس بالقليل، فضلا عن امكانية بسط سيطرته على منشآت نفطية أو غازية تقع بالقرب منه أو تحت قبضته المحتملة، ليتشكل بهذه المكونات صورة شديدة القتامة ومتفجرة بالمخاطر التي لا حدود لها !