بغدادى الرحمة وبغدادى الإرهاب

بغدادى الرحمة وبغدادى الإرهاب

الأهرام اليومي- د. أسامة الأزهرى

رجلان اشتهرا باسم البغدادي، أولهما عالم متبحر فى علوم الشريعة، وهو أيضا فيلسوف طبيب رحالة عبقري، عاشق للعمران، وعاشق لمصر وللأزهر، ومنبهر بعبقرية المصريين القدماء فى تشييد الأهرام والآثار الخالدة، فهو بغدادى يعد قطعة من الرحمة، وثانيهما إرهابى مجرم، خرج على الناس بالتكفير والتفجير وقطع الرقاب، وتدمير الآثار العريقة للحضارات القديمة المندثرة شمال العراق وسوريا، ولن يذكره التاريخ إلا باللعنات.

 

أما البغدادى الأول فهو العلامة الإمام الجليل موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، الذى وفد إلى مصر سنة 589هـ (القرن السادس الهجرى)، الموافق سنة 1193م (الثانى عشر الميلادى)، وكان نموذجا للإنسان المسلم بحق، عاشقا للعلم والعمران، هام حبا بمصر، وسجل فى رحلته (الإفادة والاعتبار) وصفا تفصيليا لجغرافيتها، والنباتات التى تنبت فيها، وطباع أهلها.

 

وقد أجلسه الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين للتدريس فى الأزهر، قبل 900 سنة من اليوم، فأقام يدرِّس فيه بضع سنوات، إلى وفاة الملك العزيز سنة 595هـ، وقد صرح هو بذلك فى سيرته الذاتية التى نقلها ابن فضل الله العمرى فى كتاب : (مسالك الأبصار، فى ممالك الأمصار) فقال: (وكان سيرتى فى هذه المدة أننى أقرئ الناس فى الجامع الأزهر إلى نحو الساعة الرابعة، ووسط النهار يأتى من يقرأ الطب وغيره، وآخر النهار أرجع إلى الجامع، فيقرأ قوم آخرون، وفى الليل أشتغل مع نفسى).

 

ومن عجائب هذا البغدادى العبقرى الطبيب المؤرخ أنه نظر إلى أهرام الجيزة والآثار المصرية العريقة نظرة خبير، فأدرك مقدار العبقرية الكامنة وراء هذه الأبنية الخالدة، قال فى كتابه: (الإفادة والاعتبار)/ص90/ من طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1998م عن أهرام الجيزة: (وقد سُلك فى بناية الأهرام طريقٌ عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صَبَرَتْ على مَرِّ الزمان، بل على مَرِّها صبر الزمان؛ فإنك إذا تَبَحَرْتَها وجدتَ الأذهان الشريفة قد اسْتُهْلِكَتْ فيها، والعقول الصافية قد أَفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مُثُلا هى غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها، وتُخْبِرُ بحالهم، وتنطق عن علومهم وأذهانهم، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم).

 

بل يسجل عن الأهرام شيئا عجيبا لم يعد موجودا اليوم بسبب الزمن وعوامل التعرية، وهو النقوش النفيسة التى شاهدها هو قبل تسعمائة سنة على الهرم، والتى كانت سجلا تاريخيا ووثيقة أثرية نادرة لا تقدر بكنوز الأرض، وقد زالت عبر تسعة قرون مضت من الزمان، لكنها كانت باقية إلى زمنه، ولم يبق منها اليوم شيء، فيقول/ص92/: (والعجيب فى وضع الحجر بهندام ليس فى الإمكان أصح منه، بحيث لا تجد بينهما مدخل إبرة، ولا خلل شعرة، وبينهما طين كأنه الورقة، لا أدرى ما صفته، ولا ما هو، وعلى تلك الحجارات كتابات بالقلم القديم المجهول، الذى لم أجد بديار مصر من يزعم أنه سمع بمن يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدا، حتى لو نقل ما على الهرمين فقط إلى صحف لكانت زهاء عشرة آلاف صحيفة).

 

بل يقول عن الجيزة/ص100/: (فهذه المدينة مع سعتها وتقادم عهدها، وتداول الملل عليها، واستئصال الأمم إياها، من تعفية آثارها، ومحو رسومها، ونقل حجارتها وآلاتها، وإفساد أبنيتها، وتشويه صورها، مضافا إليها ما فعلته فيها أربعة آلاف سنة فصاعدا، تجد فيها من العجائب ما يفوت فهم الفطن المتأمل، ويحسر دون وصفه البليغ اللسن، وكلما زدته تأملا زادك عجبا، وكلما زدته نظرا زادك طربا، ومهما استنبطت منه معنى أنبأك بما هو أغرب، ومهما استثرت منه علما دلك ذلك على أن وراءه ما هو أعظم).

 

وأقول هذا البغدادى العبقرى نموذج شريف ورفيع للإنسان العراقى الشقيق العظيم، الذى ضرب بسهم فى صناعة حضارة عريقة وعظيمة على ضفاف دجلة والفرات قبل ألوف السنين، وبه صارت بغداد فى عهد الخلفاء المسلمين عاصمة الدنيا، ومقر العلم والحكمة، ورمز الحضارة.

 

أما البغدادى الثانى فهو أبو بكر البغدادي، التكفيري، مجرم الحرب، زعيم تنظيم داعش الإرهابي، الذى قدم للعالم نموذجا من أبشع نماذج التاريخ دموية وجنونا وإرهابا، ورغم أنه تلقب بلقب البغدادى إلا أنه فى حقيقته وجوهره امتداد لظاهرة التتار التى كانت أعنف هجوم وتدمير على بغداد العريقة.

 

وقد تضاربت الأخبار خلال الأشهر الماضية حول مقتله، فكانت المؤسسات الروسية تؤكد مقتله، وكان الأمريكان ينفون ذلك أو يتشككون فيه، وقد خرج يوم الخميس الماضى بتسجيل صوتى جديد مدته نحو خمسين دقيقة، فى غاية الخطورة، ينفى فيه مقتله، ويكرس للصراع الأبدى بين الناس، ويدمر مقاصد الشريعة التى جاءت بالهداية لا الصراع، والتى جاءت بحفظ الأنفس والعقول، وجاءت بالعلم والحضارة، فحولها هو وأتباعه إلى القتل والخراب، وينادى أتباعه فى التسجيل الصوتى المذكور بأن يوقدوا لهيب الحرب، وأن يكثفوا الضربات، وأن يستهدفوا مراكز الإعلام، والعلماء والدعاة، بما ينذر بانطلاق خلايا داعش بأحداث إرهابية قادمة فى أوروبا وأمريكا وغيرها.

 

إن الفرق ما بين البغدادى الأول والثانى كالفارق ما بين السماء والأرض، والجنة والنار، والمقارنة بين هذين البغداديين ــ والضد يظهر حسنه الضد كما يقول الشاعر ــ تكشف لنا عن الفارق الضخم بين عقل فهم الإسلام بحق، فانطلق منه إلى الأمان والعمران والعلم والإبداع والحضارة، فحقق مقاصد الشرع الشريف، وبين عقل آخر إرهابى مظلم، حمل راية التكفير والقتل بأبشع الطرق فدمَّر مقاصد الشريعة.

 

وسوف يزول هذا البغدادى المجرم حتما، مهما أخرج من تسجيلات وشحن أتباعه ودفعهم للقتل والخراب، وسوف يزول معه كل الدواعش والتكفيريين وخوارج العصر، ويبقى ما ينفع الناس، وقد قال الله تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ).