ازدواجية أمريكية

ازدواجية أمريكية

بقلم ..د . هالة مصطفى

بعد طول مراوغة أعادت قطر برفضها مطالب الدول الأربع (مصر, السعودية, الإمارات, البحرين) الأزمة إلى مربعها الأول سعيا لكسب الوقت, وربما رهانا على تغيير بعض المواقف للحصول على أقصى ما يمكن أن تحصل عليه فى أى تسويات سياسية مرتقبة, أو أن تجد لها الوساطة الدولية, التى تقوم بها الولايات المتحدة, مخرجا لا ينزع عنها كل أوراقها, خاصة بعد ما وسعت دائرة الأزمة لتُدخل فيها كلا من إيران وتركيا اللتين أصبحتا بدعمهما الصريح وانحيازهما السافر للدوحة طرفين أصيلين فيها.

 

والواقع أن كليهما (إيران وتركيا) ليستا مجرد دولتين حليفتين لهذه الدولة الصغيرة, فلكل منهما مشروعها التوسعى المناهض للنظام الإقليمي العربى – الذى فى المقابل تعمل مصر والسعودية على بقائه واستمراره – لصالح نظام شرق أوسطى جديد يعطى لهما فرصة لقيادة إقليمية تستميتان لتحقيقها, وهو نفس المفهوم الذى طالما تحدثت عنه الدوائر السياسية والبحثية الأمريكية تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» حتى وإن اختلفت الرؤى حوله من دولة إلى أخرى, فطهران منذ الثورة الخومينية 1979 تتبنى مشروعا شيعيا فارسيا تريد له أن يمتد شمالا إلى العراق وسوريا ولبنان, وجنوبا إلى شبه الجزيرة العربية حتى اليمن, تخوض من أجله حروبا مباشرة وبالوكالة وتدعم كل الميليشيات الممكنة لتقويض الدول الوطنية, وتركيا من ناحيتها مع حكم أردوغان لا تألو جهدا ولا دعما للجماعات السنية المتطرفة ولجماعة الإخوان بالذات حتى تُصبح مركزا للعالم الإسلامى بعد انقضاء زمن خلافتها العثمانية, وواشنطن على الجانب الآخر ترى فى تقسيم بعض الدول أو السماح بإقامة دويلات لبعض الأقليات مثل الأكراد وغيرهم وسيلة لإعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط تستكمل بها أو تطور مثيلاتها القديمة التى كرستها «سايكس – بيكو» بعد الحرب العالمية الأولى, أما قطر فقد وضعت نفسها فى خدمة جميع هذه المشاريع على تضاربها لتُوجد لنفسها وظيفة ومكانا بين الدول الكبيرة, وبالتالى فكل من الدول الثلاث (أمريكا, تركيا, إيران) تريد شيئا ما منها توظفه لأهدافها أو مشروعها الأكبر, وهو ما تسبب فى تعقيد الأزمة وتشعبها.

 

ولأن تركيا وإيران هما فى النهاية دولتان إقليميتان تبحثان عن قوة دولية كبرى تدعمهما, وجدتها الأولى فى روسيا والأخرى فى الولايات المتحدة حليفها الطبيعى الذى تعمل تحت مظلته فى حلف «الناتو», فإن السؤال الجوهرى يظل متعلقا بموقف القوة العظمى أى أمريكا وطبيعة الدور الذى تلعبه فى هذه الأزمة وطريقة إدارتها لها, والأهم انحيازاتها لأى من طرفيها, الدوحة (التى تضم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط) فى جانب والدول الأربع (الحليفة لها) فى الجانب الآخر.

 

منذ البداية, ورغم إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن وقوف إدارته بصلابة ضد الإرهاب واعتبار محاربة داعش ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة أولوية قصوى والتى تُتهم قطر بدعمها, إلا أن مواقفه بدت مترددة وأحيانا مرتبكة, يحاول أن يحافظ على ذات العلاقة الجيدة التى تربطه بالجانبين دون إحداث أى تغيير جوهرى فى السياسات, بل واستمرت صفقات السلاح كما كان مقررا لها, وهو ما تؤكده التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاجون, حتى وإن اختلفت فى التفاصيل, وبالتالى لم تسفر «دبلوماسية الهاتف» التى اعتمدتها الإدارة – أى الاتصالات المتتابعة مع طرفى الأزمة – أثناء الوساطة الكويتية عن شىء ملموس, بل إن ترامب, الذى أظهر حماسا شديدا مقارنة بباقى المؤسسات الأمريكية بسرعة حسم المواجهة مع التنظيمات الإرهابية, عندما أشار إلى الدول الداعمة للإرهاب لم يسمها بالاسم واكتفى بالقول (إنه على جميع الدول وقف تمويل الإرهاب وتقويض أيديولوجية التطرف) مثلما استبقت وزارة خارجيته قطر نفسها فى دعوة الدول الأربع لأن تكون مطالبها عملية وقابلة للتنفيذ, وهو ما اعتبرته الأخيرة طوق نجاة مؤقتا لها.

 

المعروف أن الأزمة مع الدوحة جاءت فى الأساس على خلفية علاقتها بإيران (دون ذكر لتركيا) وبالجماعات المتطرفة الشيعية والسنية, وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين, ولا شك أن موقف إدارة ترامب من إيران ووكلائها واضح وصريح, وسبق أن وصفتها بأنها «أكبر راع للإرهاب فى العالم», وتتوافق في ذلك مع دول المقاطعة الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين) التى تعتبرها تهديدا مباشرا لأمن الخليج, وإن ظل السؤال عالقا حول المدى الذى يمكن أن تصل إليه الأمور على هذا الصعيد تسويةَ أم حرباَ, ولكن بقى الموقف من الشق الثانى, تحديدا ما يتعلق بالإخوان (وهو ما يهم مصر فى المقام الأول) غائما, ومن هنا جاء التعليق الأمريكى بضرورة حل الأزمة «داخل البيت الخليجى» وكأنه يفصل ضمنيا بين الشقين.

 

صحيح أن الرئيس الأمريكى فور توليه السلطة وجه انتقادات علنية لهذه الجماعة وشرع فى إصدار قرار تنفيذى بإدراجها ضمن قوائم الجماعات الإرهابية وهو ما أكده أحد مستشاريه للأمن القومى, إلا أن ذلك لم يحدث, وقد ينطبق نفس الشيء على مشروع القانون المقدم بنفس المضمون إلى الكونجرس. والمشكلة أن هذه القضية تنقسم حولها الآراء, وتكفى الإشارة إلى الهجوم الذى تعرض له ترامب من كبريات الصحف الأمريكية فى حينه لإثنائه عن اتخاذ مثل هذا القرار, استنادا إلى كونها- أي الجماعة – مشاركة فى الحكم فى عدد من الدول العربية والخليجية فضلا عن تركيا, التى خرج أردوغان فى الأصل من تحت عباءتها, وهى دول كلها من حلفاء أمريكا, وكذلك فعلت المنظمات الحقوقية كـ «هيومن رايتس ووتش», والأهم شهادة وزير الخارجية ريكس تيرلسون فى إحدى جلسات الاستماع بمجلس الشيوخ, التى أكد فيها أنها (جماعة كبيرة لها أنصارها فى جميع أنحاء العالم العربى والإسلامى, وبالتالى يصعب وصفها فى العموم بالإرهاب, لكن فقط يمكن تصنيف بعض تياراتها أو أجنحتها المتورطة فى العنف كجماعات إرهابية) وهو موقف يحمل نوعا من «البراجماتية» أو التوظيف السياسى للجماعة, الذى ترسخ بعد أحداث 11 سبتمبر كجزء من إستراتيجية احتواء الجماعات المسلحة بالاعتماد على الإخوان باعتبارهم «المعتدلين».

 

هذه الإشكالية تحديدا هى ما تعول عليه قطر ومعها تركيا لكسب الوسيط الأمريكى فى صفها فى تلك النقطة بالذات, ولا يبدو إلى الآن أن إدارة ترامب قادرة على حسم الموقف, وأقصى ما يمكن انتظاره منها هو البحث عن الحلول الوسط, التى ستطيل أمد الأزمة. نقلا عن الاهرام