د.شوقي علام: من الحج إلى الهجرة النبوية

إيجى 2030 /

تجتمع في شعيرة الحج معاني الهجرة الحسية والمعنوية مما يجعل هذه الشعيرة الكبرى فرصة عظيمة للمسلم حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فروحه مصفّاة نقيّة، ونفسه مُخلًّاة من مظاهر التعلق بغير الله عزَّ وجلَّ، وقلبه مليء بإخلاص القصد وإفراد الوجهة له وحده.

 

ولا ريب فإن هذه المعاني تثبت أن الحج هو هجرة السعداء لا هجرة الأشقياء، حيث يفرُّ العبد في هذا الركن الأعظم إلى ربه لا منه، هاجرًا ماله وولده وأهله وبلده؛ تحققًا بقوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات: 50]، وطاعة لله وحده، وطلبًا لمغفرته ورحمته، وتلبية لأذان أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم أذان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وتتحقق الهجرة بالمهاجرة إلى الموضع الذي ارتضاه الله تعالى وشرعه، وذلك ظاهر في الحج حيث يخرج الحاج من بيته في رحلة مقدسة يقصد بها الأماكن المقدسة، التي هي محل رعاية رب العالمين ومقصد الأنبياء والمرسلين ومهبط الملائكة المكرمين، وملاذ الصالحين والمسلمين من كل فجٍّ قريب أو بعيد.

 

هذه الرحلة هي من مظاهر الهجرة الحسية حيث السفر والمشقة، ومعلوم أن المسافر أو المهاجر يحتاج إلى إعداد الزاد من الطعام وحمل ما يلزم في هذه الرحلة، وقد بين الله تعالى للمسلمين أنه ينبغي عليهم أن يستكثروا من فعل الخير والبر، ليكون زادًا لهم في الآخرة تشبها بإعداد المسافر الزاد لسفره، والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن ذكر لفظ “الزاد” لم يرد إلا في سياق آيات الحج قال الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة : 197].

 

وفي ذلك إشارة إلى تضمين مناسك الحج مقاصد الهجرة وأسبابها الحسية والمعنوية، بل قد ورد في الشرع ما يثبت أن هناك أوجهًا للمشابهة بين الهجرة وبين الحج، ومن ذلك بيان الله تعالى لجزاء من مات وهو في طريقه إلى الهجرة: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 100]،

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن من مات وهو في طريقه إلى الحج: “من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة”. كما أن الحج والهجرة عبادتان تهدمان ما كان قبلهما من الصغائر، ويحتمل أنهما يهدمان الكبائر أيضا فيما لا يتعلق به حقوق العباد بشرط التوبة.

 

كما يمتثل الحاج أوامر الله تعالى ويلزم نفسه بالطاعة والفضيلة، ممتنعًا عن ارتكاب محظورات الإحرام فضلا عن محظورات الإسلام التي تقضي بهجرة المعاصي واجتناب المفاسد القولية منها والفعلية، والابتعاد عن كل ما يثير الضغائن والأحقاد والنزاعات، حتى يصح حجه، امتثالًا لقوله جلَّ شأنه: ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجّ، [البقرة: 197]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”. والحاج في حجه يقابل الإساءة بالإحسان والصبر والتحلي بمكارم الأخلاق، تأدبًا مع ضيوف الرحمن، وقيامًا بما يجب على الضيف من القيام به عند مضيفه.

 

ولا يخفى أن هذه المعاني من امتثال أوامر الشرع وهجران المحارم والابتعاد عن جميع ما نهى الله عنه يصدق عليها اسم الهجرة، بل إن في ذلك ما هو أكبر فضيلة وأعظم هجرة، فالهجرة لا تتحقق إلا بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات، وهي الباقية إلى يوم القيامة، لا بمجرد الانتقال من بلد إلى آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”. وبذلك فإذا ما تأملنا رحلة الحج ومناسك هذه الشعيرة سنجد أنه ينبغي علينا أن نبذل غاية الوسع في استلهام الدروس والعبر من دلالات العبادات في الإسلام ومقاصدها وأحكامها وآثارها، التي تجتمع كلها على ترسيخ مقاصد الهجرة والتأكيد على معانيها الحسية والمعنوية، ومن ثَمَّ ينكشف لنا حكمة اتخاذ المسلمين حدث الهجرة منطلقًا لتاريخهم الخالد، بل وعنوانا لتميز هذه الأمة.