السفير/ عبد الرءوف الريدى: ابن المنيا العملاق الأخضر

 

عشت طوال الأسبوع الماضي في أجواء المنيا- حلوها ومرها…

عشت مع أبناء مصر كلها أحداث قرية الكرم والجريمة البشعة التي ارتكبت ضد هذه السيدة التي ظهرت صورتها في الصحف السيارة وهي متشحة بالسواد ولكن وجهها ينطق بالنبل والأصالة…

كيف حدث ما حدث ولماذا حدث؟ هذا -شأني شأن الكثيرين غيري- هو ما أود أن أعرفه، وأحيي الأستاذ محمد عبد الهادي علام رئيس تحرير الأهرام الذي أوفد فريقا يقوده الأستاذ نبيل عبد الفتاح مع بعثة ذهبت إلى حيث وقعت الجريمة والتقى بالناس هناك وعاد لنا بتقرير وافٍ على مدى ثلاث صفحات، والأهرام بذلك تعود بالصحافة المصرية إلى واحدة من أهم مبررات وجودها… صحافة التحقيق investigating journalism ولكننا في وسط ذلك ذهبت مع زملاء لي إلى المنيا شهودا على ميلاد مكتبة جديدة تنضم إلى منظومة مكتبات مصر العامة حاملة رقم 15 وكان حفلا مبهجا لأنه كان بمثابة الاصرار المصري على انتصار روح المحبة بين أبناء الوطن وكان من أكثر ما أعجبني في مكتبتنا الجديدة هو ذلك الفريق المتجانس الذي تقوده سيدة منياوية من المبدعين من مسلمين ومسيحيين.

كان في افتتاح هذه المكتبة الواقعة على كورنيش نيل المنيا المتفرد في جماله أبلغ رسالة في أننا كمصريين نتمسك بتقاليدنا السمحة وبوحدتنا الوطنية وتثور مشاعرنا لأية إساءة لأخواتنا في الوطن مسلمات أو مسيحيات.

منذ أسابيع قليلة كانت محض صدفة أن تلقيت خبر وفاة العالم المصري الكبير والصديق ابن المنيا دكتور مصطفى كمال طلبة بينما كنت أطالع مجلة الايكونوميست، وقد استوقفني أن يتصدر قسمها العلمي هذا العنوان “مصطفى طلبة، العملاق الأخضر” مع عنوان فرعي أن طلبة هو “مؤسس أهم نظام (regime) دولي أدى إلى حماية كوكب الأرض من الانبعاثات التي تحمل الأشعات فوق الحمراء. جاء ذلك في مقال طويل في المجلة الأشهر في العالم واستعرض ما قام به ابن المنيا أثناء عمله لستة عشر عاما مديرا تنفيذيا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وكان أهم ما توج به مسيرته هو نجاحه في وضع بروتوكول مونتريال الذي ساهم في تخفيض ما لحق بطبقة الأوزون من دمار نتيجة الانبعاثات النابعة أساسا من الدول الصناعية المتقدمة، والتي تلعب دورا رئيسيا في تكوين ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة حرارة الأرض، وقد ذكرت المجلة أن اتفاقية فينا لحماية طبقة الأوزون وبروتوكول مونتريال الذي صدقت عليه مائة وسبعة وتسعون دولة والذي فرض التزامات دولية لتخفيض انبعاثات الكاربون ديوكسيد هما نصر شخصي للعالم المصري الكبير الذي ظل لستة عشر عاما مديرا تنفيذيا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة وهي فترة يندر أن يبقى فيها موظف دولي كبير في منصبه، إلا أن المجتمع الدولي المهتم بحماية كوكب الأرض تمسك ببقاء هذا العالم الكبير طوال هذه الفترة لإنجازاته العلمية والإنسانية الكبرى وقدرته الفذة في الإدارة والإنجاز، والتي أدت حتى الآن إلى أن يتفادى العالم انبعاثات تقدر بمائة وخمسة وثلاثين مليار طن من الكاربون ديوكسيد (carbon dioxide) مما يؤدي إلى انقاذ مليونين من سكان العالم على الأقل من سرطان الجلد في كل عام…

ذكرني ما قرأته بمجلة الإيكونوميست بتلك الاحتفالية الكبيرة التي أقامها الكونجرس الأمريكي في ثمانينات القرن الماضي وكان من حظي أن أحضرها تكريما للدكتور طلبه في مركز كندي Kennedy Centre بواشنطن والكلمة الرائعة التي ألقاها في هذا الحفل الكبير وكان طلبة مدركا أهمية الكونجرس في تمرير الاتفاقيات التي نجح في انجازها.

تقاعد طلبة في أوائل التسعينات وعاد إلى مصر مواطنا عاديا وكان لا يتردد في تقديم أية مشورة للدولة فهو بقدر ما هو عالم كبير فلقد كان وطنيا حتى النخاع، لا يتردد في أن يحاضر الشباب ويحاول زرع حب العلم لديهم وهو خريج كلية العلوم جامعة القاهرة في عصرها الذهبي الذي خرّج العالم الفز دكتور علي مصطفى مشرفة الذي اصبح عميدا للكلية فيما بعد والدكتور محمد القصاص العالم المعروف في مجال حماية البيئة مثل صديقه الدكتور طلبة.

ولكن ما أذهلني حقا أن طلبة الذي اهتمت وأشادت به صحف العالم لدوره في حماية البيئة لم يلق اهتماما يذكر من الإعلام المصري بمناسبة رحيله ولم أقرأ إلا نبذة قصيرة ولكنها ثرية في الأهرام كتبها الأستاذ وجدي رياض الذي تخصص لأعوام طويلة في موضوعات البيئة، وكان يعرف د. طلبة شخصيا ويعرف انجازاته ويقدرها مثلما قدرها العالم من حولنا.

لم يكن طلبة والقصاص ومشرفة وحدهم أقطاب هذه الحقبة الزاهية بل كان هناك علماء مصريون آخرون حققوا العالمية.

كان هناك إبراهيم حلمي عبد الرحمن خريج كلية العلوم حيث درس الفلك ثم عهد إليه الرئيس عبد الناصر في منتصف الخمسينات بإنشاء اللجنة المصرية للطاقة النووية… ولدينا اليوم الدكتور مجدي يعقوب وغيره ممن أنجبتهم مصر ويحلمون بما يستطيعون أن يقدموه لبلادهم.

وعندما احتل آخرون هذا المنصب ذهب للأمم المتحدة وأنشأ الوكالة الدولية للتنمية الصناعية، وكان هناك نوابغ في الطب مثل علي إبراهيم وعبد الوهاب مورو ونجيب محفوظ (الطبيب) وغيرهم…

تلك الحقبة الزاهية هي وليدة فترة التنوير والاستنارة والتي يذكر فيها أربعة على الأقل من المنيا… دكتور طه حسين عميد الأدب العربي، والشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الجامع الأزهر الذي حصل على الدكتوراه في الفلسفة من السوريون وأخوه الشيخ على عبد الرازق صاحب الكتاب الفارق “الإسلام وأصول الحكم”، كما كان هناك الكاتب والمفكر الكبير د. لويس عوض لا أعرف إذا كان أحد من هؤلاء ارتاد مكتبة البلدية في المنيا، ولكنني رأيت المبنى الذي احتوى هذه المكتبة قبل أن يصبح فريسة الإهمال ومكتبة البلدية في المنيا كانت قرينة لمكتبات البلدية في الإسكندرية ودمنهور والمنصورة ولقد لعبت هذه المكتبات مع دار الكتب دورا هاما في المرحلة الذهبية فأنتجت لنا هذا الرعيل الرائد في العلوم والآداب…

لا أستطيع بطبيعة الحال ان اتجاهل سيدة أخرى من المنيا لعبت دورا رائدا في إعادة الاهتمام في مصر بالكتب والمكتبات العامة، وهي السيدة سوزان مبارك التي دعتني في أن أساعدها كعمل تطوعي في إنشاء مكتبة مصر العامة (مبارك سابقا) وافتتحناها في حفل كبير في مارس 95 ثم طورناها بعد ذلك بحيث أصبحت منظومة تضم اليوم خمسة عشر مكتبة تدار حسب المعايير الدولية أحدثها هي مكتبة المنيا التي كان افتتاحها يوم 28/5/2016… وكانت السيدة سوزان تحلم بأن ترى مكتبة عامة في بلدها “المنيا”، وها هو حلمها قد تحقق..

لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لإثبات العلاقة الجذرية بين الانغلاق الفكري والتطرف وتفريخ الأفكار التكفيرية التي تُحشى بها عقول الشباب ولا يجد هؤلاء الشباب شيئا يكشف عنهم غُمة الكراهية ورفض الآخر بل وتحقيره… بينما يجد لديه من الوقت ما يستطيع لو أتيحت له الامكانات أن يملأه في القراءة والإطلاع والاستمتاع بالفنون وممارسة الرياضة… وتجنب الهابط من الأفلام التي لا يجد فيها فنا رفيعا بقدر ما يجد فيها نماذج من الشخصيات التي تمجد البلطجة وتكريس النظرة الدونية للمرأة.

هناك وسيلتان لمقاومة هذا الفكر التكفيري وهما المكتبات العامة والساحات الرياضية… وعندما أتحدث عن المكتبات العامة فإنني أتحدث عن مكتبات عامة بالمستويات الدولية المعروفة… مكتبات تقوم على اجتذاب الشباب وتتيح لهم الاستعارة الخارجية… فأغلب المكتبات العامة في مصر تحولت إلى مخازن للكتب لأنها ترفض الإعارة الخارجية… ومصر الآن للأسف في ذيل قائمة الدول بالنسبة للمكتبات العامة على مستوى العالم.

هل لي أن أدعو الرئيس السيسي إلى أن تكون في كل مجموعة من هذه المباني بل والأبراج الراقية التي تقام ليسكنها من كانوا يسكنون في العشوائيات ان تقام فيها مكتبة عامة يديرها عاملون وقد تدربوا تدريبا عاليا في الفنون الحديثة لإدارة المكتبات العامة لاجتذاب الشباب لارتيادها، كما أنني أرى وزيرا للشباب ذا همة عالية وفي تقديري أنه من خلال إتاحة القراءة والرياضة سيجد الشباب في كل ربوع مصر ما من شأنه أن يوجه طاقاتهم إلى إفادة أنفسهم وإفادة المجتمع والارتقاء بوطنهم مصر الغالية…

وبعد فإنني أدعو أهلنا في مصر لزيارة المنيا… إن المنيا مكان سياحي رائع… هل تجد في محافظة أخرى (باستثناء القاهرة والجيزة) هذا الكم من الآثار؟ آثار اخناتون ونفرتيتي في تل العمارنة وتونة الجبل ومقابر بني حسن والأشمونين وغيرها، أما منظر النيل في المنيا فهو أجمل ما يمكن أن ترى ويذكرك بنيل أسوان الخلاب، ولقد قضينا سهرة جميلة هناك مع أهل المنيا الذين يتوافدون على الكورنيش للسهر البريء والمؤانسة، ورغم أحزان الكرم كان هناك بهجة وتلقائية في التواصل بين الناس…

أما منظر الشمس وقت الشروق فلا يعادل جمالها شيء وهو تنساب بأشعتها الذهبية على النهر الخالد في أجمل صورة يمكن أن تبدأ بها يومك…

 

اذهبوا إلى المنيا… وتعرفوا على ما فيها من جمال وتواصلوا مع أهلنا هناك… فإن ذلك مما يشرح الصدر ويقوي العزيمة على الانتصار على قوى الحقد والكراهية…

اذهبوا إلى المنيا… عروس الصعيد.

نقلا عن الاهرام