التجديد وعلاقة الحاكم بالمحكومين

بقلم ـ عباس شومان

ذكرت فى مقال سابق أن شريعة الإسلام تستوعب أنظمة الحكم المعاصرة على اختلاف مسمياتها، ولا يتعين نظام معين لا يجوز الارتكان لغيره كما يزعم البعض فيما يتعلق بنظام الخلافة الإسلامية، فكل نظام يرتضيه الناس هو عقد بينهم وبين حاكمهم يُلزم طرفيه بآثاره التى توجب على الحاكم رعاية مصالح المحكومين، وتحقيق العدالة والمساواة وإنصاف المظلوم والأخذ على أيدى الظالمين من خلال البنود المحددة لاختصاصات والتزامات المؤسسات المختلفة، وهو ما يُعرف فى زماننا بالدساتير والقوانين، وللحاكم الأعلى حق الطاعة من المحكومين وعدم الخروج على مقتضى الدستور والقانون ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل، وعلى الحاكم أن يشاور أهل الرأى والخبرة من المحكومين فيما يحتاج إلى مشورة، وأن تكون المشاورة بقصد الاهتداء إلى القرار المحقق للمصلحة والدافع للمفسدة، ويكون إصدار القرار الذى يدخل فى اختصاصات الحاكم من سلطاته التى لا ينازَع فيها وإن لم يكن على وفق المشورة، فالحاكم هو المتحمل لنتيجة قراره سواء وافق رأى الذين استشارهم أو خالفه.

 

وبدهى أن الشورى من مبادئ شرعنا الحنيف، وقد أمر بها المولى عز وجل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقال: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ»، وجعلها المولى عز وجل سمة للمؤمنين، فقال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، و«الشورى» إحدى سور القرآن العظيم، وقد استشار الرسول الكريم صحابته فى مواطن عدة ونزل على رأى معظمهم أو بعضهم فى كثير منها، حتى إنه نزل على رأى نفر من صحابته تحمسوا كثيراً للخروج لقتال المشركين فى غزوة أحد، مع أنه كان يفضل البقاء فى المدينة لاستغلال جهل المشركين بدروبها، وهو ما يسهّل تصيدهم ونصب الأكمنة لهم إن داهموا المدينة، وحتى يتقوى المسلمون بمن لا يقدرون على الخروج للقتال كأصحاب الأعذار والنساء، وذلك لتعويض التفوق العددى بين جيش المشركين وجيش المسلمين، ومع أن سير المعركة أثبت أن البقاء فى المدينة كان الأفضل استراتيجياً، فإن النبى -صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخذ على الأخذ برأى نفر من صحابته. وقد نزل النبى -صلى الله عليه وسلم- أيضاً على رأى بعض صحابته عادلاً عن رأى الآخرين فيما يتعلق بأسرى بدر، ومع أن القرآن الكريم أيّد الرأى المتروك وهو المرجح لقتلهم، فإنه أقرّ العفو الذى أخذ به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فى شأنهم، واقتصر على مجرد العتاب وبيان الحكم الأوّلى لينتفع به مستقبلاً. وفى غير مرة اعتمد النبى -صلى الله عليه وسلم- رأى صحابى واحد فى أحداث غاية فى الأهمية والخطورة، منها حفر الخندق بناء على رأى سيدنا سلمان الفارسى، وتغيير موقع عسكرة الجيش فى غزوة بدر اعتماداً على رأى سيدنا الحباب بن المنذر، وكلاهما حالفه الصواب وكان له أكبر الأثر فى تحقيق الغلبة للمسلمين.

 

ومن ثم، فإن للمحكومين الحق فى إبداء الرأى ولو كان فى تقييم أداء الحاكم نفسه، شريطة أن يكون ذلك فى حدود التعبير عن الرأى دون خروج أو تطاول بما ينال من مكانة الحاكم وشخصه، فإذا كان النيل من الغير وإن كان من عامة الناس من الجرائم المعاقَب عليها فى شريعتنا؛ فإن هيبة الحاكم ورمزيته تزيد من قبح المتطاول وجرمه، وقد جاءت نصوص شريعتنا صريحة فى هذا الأمر بما لم تصل إليه الشرائع الوضعية فى أى بلد من بلاد العالم فى زماننا، ففى كتب الصحاح من الأحاديث الآمرة بطاعة الحاكم ما تضيق هذه المساحة عن ذكر قليل من كثيره، ويكفى أن نذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم -تدعون لهم- ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: يا رسول الله، أفننابذهم السيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. إذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا فعله، ولا تنزعوا يداً من طاعة». وهذه «الحصانة» التى أعطاها الشرع للحكام ليست لكونهم أحراراً يفعلون ما يحلو لهم متى ما شاءوا، ولا لكونهم لا يُسألون عما يفعلون، بل لأن فى ذلك حكمة ومصلحة كبرى، وذلك لئلا يتقاتل المحكومون فيما بينهم بين مؤيد للحاكم وخارج عليه، ولذا منع الشارع الحكيم الخروج على الحاكم المسلم ولو كان فى المحكومين من هو أصلح منه ما دامت الغالبية راضية بحكمه، فقال صلى الله عليه وسلم: «من خرج على أمتى وأمرهم جميع على رجل واحد فاضربوا عنقه»؛ وذلك لأن الخروج على الحاكم يفضى إلى تعريض الدماء والأعراض والأموال للخطر العظيم، ولا سيما إن كان الحاكم يحكم السيطرة على جيشه وأمنه، وكان ممن لا يتقون الله ولا يعظمون الحرمات.

 

واتباع المحكومين لحاكمهم متوقف على ألا يأمرهم بما يخالف شرع الله ومعصيته، فإن أمرهم بشىء من ذلك فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، أما إن أجمع الناس أو غالبيتهم على عدم صلاحية حاكمهم وفشله فى تحقيق مصالح المحكومين ورعايتهم وقاموا بتنصيب غيره؛ ففى هذه الحال لا تبقى ولاية لسابقه، بل على الجميع اتباع الحاكم الجديد وإعانته فى إدارة شئون المحكومين، وهو ما لا يعيه «المجددون الجدد» فى زماننا جهلاً أو تجاهلاً.

 

وليس للحاكم أن يحاسب صاحب رأى على رأيه ما لم يتعرض له بما يُعد إهانة توجب عقابه، وقد عورض أشرف الخلق من بعض الناس بما أغضب الصحابة لكنه لم يعاقب أحداً، ولا ينبغى أن يكون رأى ما فى الحاكم مدخلاً لنبذ صاحب الرأى، أو مانعاً من الاستفادة من خبراته متى كان مؤتمناً على ما يُسند إليه، ولا ينبغى أيضاً أن يكون ذلك مدعاة لظلمه ومنعه من الوصول إلى حقه إن كان له حق، فقد قال سيدنا عمر وهو أمير للمؤمنين لرجل قتل أخاه: «إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال الرجل: أوَمانع ذلك حقى عندك؟ فقال سيدنا عمر: أما هذه فلا. فقال الرجل: فلا يضيرنى كرهك لى، فإنما تأسى على الحب النساء».