«السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة «13 الشخصية الاعتبارية

 

بقلم الدكتور ـ  شوقى علام

أنتجت النُّظُم القانونية الحديثة مصطلح «الشخصية الاعتبارية»، وقد يعبَّر عنها بــ «الحُكمية» أو «المعنوية» أو «التقديرية»، ومهَّدت تلك النظم لها أحكامًا تتباين عن أحكام الشخصية الطبيعية. ولقد برز الاهتمام بهذا النوع من الشخصية حتى بات الشخص الاعتباري حقيقة واقعة في نظام الدولة الحديثة وقوانينها، فمثلا أخذ به القانون المصري وحدَّده وبيَّن صلاحياته والحقوق المُرتَّبة عليه في المادة رقم (52، 53) من القانون المدني رقم (131) لسنة 1948م. ورغم كثرة تعريفات الشخص الاعتباري فإنها كلها تهدف إلى تعريف الشخص الاعتباري بأنه: «مجموعة من الأشخاص والأموال يتوافر لها كيان ذاتي مستقل تستهدف تحقيق غرض معيَّن وتتمتع بالشخصية القانونية في حدود هذا الغرض».

 

ولا ريب فإن المقصود من «الكيان الذاتي المستقل» أن يُقَدَّر للشخص الاعتباري وجود مستقل عن الأفراد الطبيعيين المكوِّنين له، وبهذا الوجود يتمتع بحياة قانونية؛ ومن ثَمَّ تتحقق صلاحيته لتلقي الحقوق وتحمل الواجبات. وبالمقارنة بين الشخص الطبيعي والاعتباري تنتج عدة فوارق جوهرية:منها: الصفات والسِّمات، فالشخص الاعتباري له وجود قانوني، ولكنه تقديري اعتباري لا حسِّي، أما الشخص الطبيعي فذو وجود مادي محسوس، كما أن الشخص الاعتباري يُعرَف بتعدد الأماكن حيث يمكن أن يوجد في أكثر من جهة في وقت واحد بتعدد فروعه، وأن يثبت له أكثر من وصف كأن يكون بائعًا ومشتريًا ووكيلًا أو نائبًا عن الغير، وغير ذلك من مختلف التصرفات.

 

ومما يتصف به الشخص الاعتباري أنه لا نفس له ناطقة، لذلك لا يتحمل ما يتحمله الشخص الطبيعي الذي تفرض عليه طبيعته البشرية الاتصاف ببعض صفات البشر كالشجاعة والكرم والنخوة وغير ذلك من مكارم الأخلاق، ولعل أبرز مثال على ذلك مسألة الكفالة والضمان؛ حيث اتفق الفقهاء من المذاهب الأربعة والظاهرية على عدم جواز أخذ الأجرة على الكفالة؛ لأنها من باب رفع الضيق عن الصديق، فأخذ الأجرة عليها ينافي كونها من عقود التبرعات، وفي ذلك الارتقاء بالفرد وتحليته بمعان سامية تتجلى في البذل والعطاء.

 

لكن ذلك يختلف لو كنا نتعامل مع شخصية اعتبارية، لأن البنك مثلًا ـ وهو أحد الكيانات الاعتبارية ـ عند كفالته أحد عملائه وهو ما يعرف بـ «خطاب الضمان» لا يخشى عليه ألا يربَّي على البذل والعطاء إن هو أخذ أجرًا على ذلك؛ لأن الشخص الاعتباري يؤدي ما يؤديه من أعمال بواسطة ممثليه بأجر، فافتراض أن يُقَدِّم الشخص الاعتباري بعض خدماته دون مقابل استجابة لدواعي المروءة.

 

ومنها: التبعية، فالشخص الاعتباري وجوده تبعي، أي يكون تابعًا دائمًا لوجود مجموعة أشخاص طبيعيين أو أموال، أما الشخص الطبيعي فوجوده مستقل بنفسه في الواقع والاعتبار. ومنها الحقوق والواجبات، فليس كل ما ثَبُت للشخص الطبيعي يثبت للشخص الاعتباري، كالزواج والطلاق وأحكام الميراث ونحو ذلك مما يعد من الصفات الملازمة للطبيعة الإنسانية.

 

ومنها، أن الشخصية القانونية تثبت للشخص الطبيعي بمجرد ولادته، خلافًا للشخص الاعتباري الذي يتوقف إعطاؤه الشخصية القانونية بالاعتراف القانوني. ومنها: النشاط، حيث لا ينحصر نشاط الشخص الطبيعي في نشاط معيَّن، بل له كامل الحرية ما لم يخالف النظام العام أو القانون، بخلاف الشخص الاعتباري فإنه ينحصر نشاطه فيما أنشئ من أجله.

 

ويضاف إلى ذلك أن فكرة الشخص الاعتباري لها أثر على تَغيُّر الفتوى، فالأشخاص إحدى جهات الفتوى الأربع التي تتغير الفتوى بتغيرها، وهي: الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، ومن المسائل التي يفترق الحكم فيها للشخص الطبيعي عن الاعتباري ما شرطه الفقهاء في عقد المضاربة من شروط تُحَقِّق التحديد النافي للغرر والجهالة، ومن هذه الشروط: أن تكون على الأوراق النقدية، وأن يوزع الربح بعد أن ينضَّ المال أي يتحول من بضاعة إلى نقود.

 

وبذلك يظهر أن هناك تباينًا بين الشخصية الطبيعية والاعتبارية، وكان لهذا التباين بين الشخصيتين أثره على الأحكام المتعلقة بكل منهما، وهذه الأخيرة بمفهومها القانوني لم تكن غريبة على الشرع الشريف، بل تصوَّرها علماء المسلمين وإن لم ينصُّوا على اسمها، وقد أخذت بها الدولة الحديثة لتنظيم التعامل معها في شخص مَن يمثِّلها.