التعليم قضية أمن قومي

التعليم قضية أمن قومي

أحمد نجم
لا شك أن نهضة أي أمة ونموها اقتصاديًا لابد أن ترتبط جذورها ارتباطًا مباشرًا بالاهتمام بالتعليم بصفة خاصة، واعتباره أهم أولويات المرحلة من منطلق الإيمان بأن التعليم هو قضية أمن قومي من خلاله تتحقق النهضة، وتنمو الشعوب اقتصاديًا، وتختفي كثير من الأزمات، وتسمو كثير من الأخلاقيات، وتقل معدلات العنف وتزيد من استقرار الأسرة.

وينبع الاهتمام بالتعليم أولًا بتحديد استراتيجيات متكاملة ومحددة للتطبيق، خلال مرحلة زمنية محددة تبدأ فصولها من الجذور حتي القمة، فلا يعقل أن نضع خطط للتطوير دون أن تكون لدينا بنية أساسية تقوم على أساسها النهضة، فمراحل التطوير لا تبدأ من الكتاب المدرسي والقضاء على الدروس الخصوصية فقط ، لكنها في اعتقادي تبدأ في وضع أسس البنية التحتية، بمعنى توفير بنية تعليمية صالحة لاستقبال الطالب والمعلم، وتوفير وسائل تبادل المعلومة مع توفير قدر كاف من التدريب على التطوير ، فلا يعقل ان نسعى للتطوير من منتصف السنوات العمرية، إذ يجب أن نبدأ التطوير في الأساس منذ الصغر فقط ، أى من مرحلة ما قبل المدرسة، فيما تسمى مرحلة الروضة، لتكون أساس الصفوف المتتالية بعد ذلك، بالإضافة لتحسين أحوال المعلم المعيشية باعتباره مضخة القيم في عقول أجيال المستقبل ، وهكذا فعلت ماليزيا ونمت وتقدمت وأصبحت قلعة صناعية واقتصادية انخفضت فيها نسبة البطالة إلى ٣ % لاهتمامها بالتعليم من الأساس، الذى وضع بنيته الرئيسية د. مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا. وعلى المستوى الشخصي أنا معجب جدًا بتاريخ هذا الرجل في ماليزيا، الذي ساهم في صنع قوة ماليزيا الاقتصادية . نضال الطفل مهاتير محمد بائع الموز الصغير الإبن التاسع لمعلم المرحلة الإبتدائية، والذي أصبح فيما بعد الدكتور مهاتير محمد وزير التعليم، ثم وزير الدفاع، وأخيرًا رئيس وزراء ماليزيا لأكثر من ٢٢ عامًا و مؤسس نهضتها ، و بعد أن أدي رسالته يستقيل ليعطي الفرصة لغيره ، و لكن يعيده الشعب الماليزي مرة أخرى رئيسًا لوزرائها في مايو العام الماضي ، ماليزيا التي استقلت رسميًا عام ٥٧ عن الاحتلال البريطاني واستقلت فعليًا عام ٦٣، وتتكون من ١٤ ولاية، نظام الحكم فيها ملكي دستوري، لكن السلطة بيد الحكومة المنتخبة، وكانت حتى الثمانينات تعيش حياة الغابات، يتصدر نشاطها الزراعي البسيط زراعة الموز والأناناس بجانب المطاط و اعمال الصيد، يعيش سكانها البالغ عددهم مايقرب من ٢٩ مليون نسمه على ١٨ ديانة مختلفة، وفي وسط هذه الظروف يشب الطفل مهاتير محمد أصغر أطفال، أب فقير يعمل معلم إبتدائي بخلاف ثمانية أبناء آخرين ، وبحكم عمل والده كانت نظرته للتعليم هي أساس تفوقه وحصوله على كلية الطب من سنغافورة، ليعود لوطنه يقدم علمه ووقته لخدمة أبناء وطنه يعالج أبناءها مجانا ، ونادى بنهضة ماليزيا من خلال الاهتمام بالتعليم، وتبنى تلك القضية حتى اختاره أبناء بلدته نائبًا في البرلمان ، ودعا في كتابه ‘مستقبل ماليزيا الاقتصادي ‘ للاهتمام بالتعليم، ليتم بعد ذلك اختياره وزيرًا للتعليم عام ٧٥ ليؤسس البنية الأساسية كما كان يحلم بها، وكما استوحاها من افكار النهضة المصرية إبان حكم محمد علي، كما قال في كلمته العام الماضي أثناء زيارته لمكتبة الأسكندرية، وكان لي شرف مقابلته هناك ، كانت خطة مهاتير محمد أثناء توليه وزارة التعليم بعيدة المدى قريبة الهدف ، توفير مكان مناسب لتلقي العلم، وقال كلمته المشهورة لا قصور و لا دواوين في وقت نحتاج فيه لبناء مدرسة، وهكذا اعتمدت خطته على مصارحة الشعب الماليزي بأهمية الخروج من بوتقة الجهل والانفتاح التعليمي على الدول المتقدمة، ووضع استراتيجيته وأهمها الاهتمام بإرسال بعثات تعليمية للخارج، واختار من كل قرية ومدينة مجموعة من الدارسين وأرسلهم لبعثات خارجية في أهم الجامعات العالمية وبخاصة بريطانيا و اليابان على أن يعودوا بعد انتهاء دراستهم ليطبقوا النهضة العلمية في أماكن إقامتهم ، وبلغ عدد طلاب البعثات الخارجية حوالي نصف مليون طالب، ألزمهم بنقل الحضارة إلى أماكن إقامتهم، الاصلية وأعلن الإلزام في التعليم ومعاقبة ولي الأمر الذي لا يرسل أولاده للتعليم، حتى بلغت نسبة الامية حوالي 1 % واهتم بالمتفوقين منذ الصغر، وأسس البنايات التعليمية بكل التجهيزات المطلوبة، وجعل الشعار طالب نشيط ومنتج شعار فعال في كل المؤسسات التعليمية، ووضع خطوط تربوية إلزامية لتعليم الأطفال من عمر ٤ سنوات بأهداف محددة، و اختار القيادات المؤمنة بالتعليم بجانب تدعيم المؤسسات التربوية بالطلاب الماليزيين القادمين من البعثات الخارجية، لتطوير مفهوم التعليم، وتم تنقية المناهج لكي تناسب قدرات كل مرحلة، بالإضافة لتدريب المعلمين لنقل خبرات البعثات الخارجية للمؤسسات التعليمية في التعليم العام ، والفني والمهني مما أدى لتساوي مسار التقدم في كل المجالات، وأعلن التقشف إلا في مجال التعليم والبحث العلمي، وبدأ من مرحلة ما قبل المدرسة فقط ليصنع جيلًا قادرًا على تخطي عقبات الإصلاح بإيمان بمستقبل بلده، واستهدف عشرون عامًا منذ تم تعيينه وزيرًا للتعليم في أوائل الثمانينات لتصل ماليزيا للقمة، ودعا للاهتمام بالتعليم الفني والزراعي، ونادى بزراعة أشجار نخيل الزيت، وتم زراعة مليون شتلة في أوائل سنوات حكمه لتصل ماليزيا إلى مرتبة أولى الدول في إنتاج وتصدير زيت النخيل، وحول المعسكرات اليابانية التي كانت موجوده منذ الحرب العالمية الثانية في ماليزيا إلى مزارات سياحية لتصبح من أهم دول العالم السياحية، وتتصدر السباقات العالمية في السباقات الدولية السيارات والخيول والألعاب الرياضية والمائية، بالإضافة لقيامه بإنشاء وتحديث المباني المدرسية لإعداد أجيال المستقبل قام بإنشاء أكبر جامعة إسلامية في العالم تم تصنيفها ضمن أهم خمس جامعات في العالم، وتخرج منها علماء ساهموا في النهضة الاقتصادية الماليزية التي تستهدف عام ٢٠٢٠ أن تكون رابع قوة اقتصادية في قارة آسيا بعد الصين واليابان والهند، وبالفعل تخطو ماليزيا نحو الهدف بدقة وبانضباط اليابانيين والكوريين في العمل والتنفيذ، وساهمت في تحقيقه البعثات التي أرسلها للخارج، وطبقت في كل مكان ما تعلمته، كان هدف مهاتير محمد الوصول بشعب ماليزيا إلى أعلى معدل في التعليم، والقضاء علي البطالة بالتوازي مع النمو الاقتصادي وبرغم اختلاف نسب السكان إلا أن الاستراتيجية الموحدة بشمول التطبيق كانت تجمع شمل أكثر من ٢٩ مليون نسمة يمثلون السكان الأصليين وهم المالايون و نسبتهم ٦٠ % بالإضافة إلى الهنود ويمثلون ١٠% والصينيون ونسبتهم ٢٥% و ٥ % مختلف الجنسيات الآخرى ، وكان من بين أساسيات بناء خطته اختيار القائد الناجح، فمدير المكان لابد أن يكون قائداّ قدوة ووضع منظومة الثواب والعقاب، وكان عنيفًا شديدًا في مواجهه الإهمال والفساد حتى أنه وضع نائبه وصديقه أنور إبراهيم في السجن لاتهامات تتعلق بالفساد، وكان ذلك عبرة للقيادات التي تعمل في حكومته، وكان دائمًا يردد أنه استوحى أفكاره من المصريين بالاهتمام بالبعثات الخارجية.

ماليزيا أصبحت قوية بفضل رؤية وزير التعليم الذي أصبح رئيس وزرائها وأصبحت أولى الدول المصدرة لأهم الصناعات الثقيلة والإلكترونية ، وبعد أن وصلت ماليزيا إلى ما هي عليه أراد مهاتير محمد أن يسلم الراية وتقدم باستقالته من رئاسة الوزراء بعد عشرين عامًا ليعيده الشعب الماليزي مرة أخرى في مايو العام الماضي، ليتولى مقاليد الحكم من جديد رغبة في التطوير للأفضل دائمًا ، وأصبحت ماليزيا تنافس اليابان في صناعتها، وفي قوة اقتصادها باهتمامها الرئيسي بتنوير العقلية الإنسانية واحترامها والاهتمام الرئيسي بنهضة حقيقية للتعليم ، والذي وضعت أساسه في الثمانينات لتجني ثماره الآن تتحدي به آفاق المستقبل. نقلا عن صدى البلد