كرم جبر: والتاريخ – أيضاً يظلم الحكام !

كرم جبر: والتاريخ - أيضاً يظلم الحكام !

الخديوي إسماعيل.. لماذا تذكرته الآن؟.. قرأت خبراً صغيراً عن ذكري وفاته في المنفي “مارس 1895″، في قصر اميرجان باسطنبول، حيث كان منفاه بعد إقالته، بمؤامرة بريطانية – فرنسية، سببها “المعلن” زيادة الديون، أما السبب “الحقيقي” فهو زيادة النزعة الاستقلالية للخديوي، فعزله السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، خوفاً من تنامي نفوذه.

 

ثورة 23 يوليو – أيضاً – ظلمت الخديوي إسماعيل، ودرسنا في كتب التاريخ في المدارس، أنه كان فاسداً وأوقع البلاد في تلال من الديون وتم تشويه صورته ومحو إنجازاته، مع أنه من أعظم البنائين، وبصماته ما زالت في كثير من المناطق بالمدن والقري المصرية.

الخديوي إسماعيل حفر قناة السويس وأقام احتفالاتها، وأنشأ قصر عابدين ودار الأوبرا وكوبري قصر النيل، وأراد تحويل القاهرة إلي مدينة أوربية، بعد أن كانت محاصرة بجبال من الأتربة، فأزالها وحل مكانها الحدائق والمتنزهات والقصور.

 

إسماعيل أنشأ العمارات العظيمة، التي لا تزال بقاياها في بعض أحياء القاهرة، وحديقة النباتات ومدينة الإسماعيلية، وبني المسرح الكوميدي والأوبرا وكوبري الجلاء وشارع الهرم، ومد أنابيب المياه العذبة إلي البيوت بدلاً من السقايين.

 

إسماعيل بني حمامات حلوان بمزايا مياهها الكبريتية، وشيد قصر الوالدة علي النيل، وأنار الإسكندرية بغاز الاستصباح بدلاً من لمبة الجاز، وشيد المجاري لتصريف مياه الأنهار، وحفر ترعة الإسماعيلية شريان الحياة في الصعيد.

كان مغرماً ببناء القصور العظيمة، علي غرار أعظم الإمبراطوريات الأوربية، وتجسدت عظمته في قصر عابدين، ليس في الطراز المعماري فقط، ولكن في الأنتيكات واللوحات الفنية لكبار الفنانين في العالم، أما سراي قصر رأس التين، فتحتاج مجلداً للحديث عن عظمتها وحدائقها وصالوناتها وأسقفها المرسومة.

 

لماذا ظلم التاريخ الخديوي إسماعيل، وما زال مصراً علي ظلمه؟

 

أعتقد أن السبب الرئيسي هو »الانتقام التاريخي»، فعندما أرادت الثورة تعظيم إنجازاتها الكبيرة، سلكت طريق الظلم لمن قبلها، فأدانت فاروق ووصفته بالفاسد، وكذلك كل من حكم قبله، واعتبرتهم جميعاً عصابة ملكية ضد الشعب، وسلبوا أمواله وغرقوا في نزواتهم وعاثوا في الأرض فساداً، رغم أن بعضهم كان له إنجازات رائعة.

 

علمونا في المدارس أن عصر الملكية كان مجتمع النصف في المائة، وأن المصريين كانوا عبيداً ويساقون بالكرابيج ويمشون حفاة وعراة، وكانت رؤوسهم منكسة وإرادتهم منكسرة.

 

بالطبع، كان هناك فساد وإذلال وفقر، ولكن لم تكن الصورة بهذا السواد القاتم، ففي عهد الملكية كانت هناك إنجازات، أهمها إضاءات أدت إلي ظهور قادة الفكر والثقافة والفن والأدب، ولا يمكن أن يظهروا في بيئة كلها فساد، وشكلوا رصيداً ثرياً لثورة 23 يوليو، وساندوا الثورة، وكانوا أقوي سلاح للدفاع عنها وبقائها واستمرارها.

 

التاريخ ليس أسود فقط ولا أبيض فقط، والمساحات الصادقة لها الغلبة، إذا تم تحريرها من الانتقام السياسي والحب والكراهية، فتقدم الدول يقوم بالبناء فوق البناء، وليس البناء فوق الهدم.

 

دائرة الظلم التاريخي يبدأ كسرها من ملء الأقلام بأحبار الحقيقة والبعد عن الانتقام، فذات يوم سوف تنشق السحب عن الأمطار، التي تزيل الغبار وتُنبت الأشجار. نقلا عن صحيفة الاخبار