الكنز الخفي.. ولا عزاء لمن استغشوا ثيابهم

الكنز الخفي.. ولا عزاء لمن استغشوا ثيابهم

بقلم : أيمن عبد المجيد

قطار الحياة، تزداد سرعته، يلتهم السنوات، تذهب بلا عودة، تترك آثارها، تتحول إلى تاريخ، يتوارثه الأجيال.

وما السنوات، إلا لبنات في بناء الإنسانية، بعضها خرساني الإنجاز، درج سُلم فولاذي، ترتقي عليه البشرية، فكريًا وحضاريًا، وعلميًا، ومنها ما هو هش، ما يلبث الإنسان أن يعتليه، حتى يسقط به إلى قاع الفتن والحروب والدمار، فتتكاثر الأوجاع وتتناثر الأشلاء.

ومن تصاريف القدر أن يشهد الزمان الواحد، النقيض في مفترق المكان، ففي بلدان تنامٍ للعمران الفكري والمادي والعلمي، وفي أخرى تكاثر لفئران السفينة، تنخر في جسد الأمة فتغُرق الأوطان.

قطار الزمن، تجاوز العام 2018، مسطرًا بمداد أيامه، تاريخًا للإنسان، متناقضًا في الدلالات والثمار من مكان إلى مكان، فمن البلدان ما سطرت إنجازات وصعودًا، ومنها ما واصلت مسلسل الدمار والهبوط.

بحفظ الله لهذا البلد الأمين، وبجهد المخلصين، سجّل التاريخ ما أثمره في مصر هذا العام، حسنات وإنجازات مرئية، والأهم منها خافٍ عن العيان، وفي محيطنا الجغرافي بلدان- نسأل الله لها السلامة- سجل تاريخها مزيدًا من تدمير البنيان وأوجاع الإنسان.

ظاهر للعيان، نهوض في البناء المادي، من عمران، وطرق ومشروعات صناعية، ونهضة زراعية، وتحسن ملحوظ في الحالة الأمنية، ونجاحات للسياسة الخارجية، بيد أن التقدم في الجوانب المعنوية غير المنظورة، في اعتقادي، أهم الإنجازات التي سيسجلها التاريخ، وسيتدارسها الباحثون، بعد عقود من الآن.

عام المواطنة ونمو الوعي

من بين تلك الإنجازات غير المرئية، ما طرأ من نمو في الذهنية المصرية، والتحولات الإصلاحية، في العقل الجمعي، الذي بات أكثر إيمانًا من ذي قبل، بمبادئ المواطنة، وأكثر وعيًا بما يحاك للوطن، وما يستوجب على الفرد لحماية جموع الشعب.

لتدرك معي حجم هذا التحول، غير المرئي، عُد  بذاكرتك إلى العام 2009، عندما كانت الأصوات تتعالى، مطالبة بقانون دور العبادة الموحد، بينما البرلمان يماطل، والتيارات الرجعية، التي تنعت نفسها بـ”السلفية”، تروج بين البسطاء أن بناء الكنائس حرام، وتستدعي من الكُتب الصفراء، ما تزعم به أن الدين يحرم بناء ما يُهدم من كنائس.

كان ترميم الكنيسة يتطلب سنوات للحصول على الموافقات، وبحث للحالة الأمنية، وتقديرات موقف، في بعض القرى الريفية التي سيطر عليها دعاة “الرجعية”، نشبت معارك بزعم تحويل بيت سكني لدار عبادة، هذا كان واقعًا معاشًا، وإن بقي جزء من التخلف، غير أنه محاصر بالوعي الآن.

ما حدث، في عام 2018، أن الدولة خاضت غمار معركة فكرية، عبر خطوات تنفيذية، أثمرت تحولًا في العقلية الجماهيرية، رافضة دعاة الرجعية، باتت الدولة قوية، تحمي حق جميع أبنائها في عبادة الله، وفق ديانتهم، بات راسخًا في قناعات الناس أن صحيح الدين يحمي حق الآخر في ممارسة عبادته، بات كل مجتمع سكني جديد كبير، يحوي كنيسة ومسجدًا، الرئيس يوصي بذلك في العلن قبل قاعات الاجتماعات.

هذا التحول، من أهم لبنات البناء الفكري الصحيح، الذي يوفر على مصر، كثيرًا من الأثمان الباهظة، التي كان من الممكن أن تدفعها، إذا ما وجدت بذور الرجعية والتخلف بيئة تسمح بنموها، باتت الغالبية العظمى تملك من الوعي والحكمة ما يحصنها من مخططات الإثارة والتحريض.

عام إنقاذ الأطفال من مخالب العشوائيات

في علم الاقتصاد، ما يعرف بالفرصة البديلة، وفي السياسة، الأرض التي تتركها فارغة يشغلها أعداؤك، راهن الخبثاء على ما أسموه “ثورة الفقراء”، أعينهم كانت ترصد إهمال الدولة للبسطاء، الفقر والبطالة مؤشراتها تتصاعد، الأحياء الراقية، بالقاهرة والمحافظات، تحيط بها العشوائيات، حتى باتت القبور في 2013 وما قبلها مسكنًا للأحياء.

بدأت الدولة المصرية، في 2014 استراتيجية مواجهة شاملة للفقر، والعشوائيات، ومزارع التطرف والإرهاب، سعت لتطبيق عملي لمبادئ حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، لتثمر في 2018 بشائر خيراتها.

15 منطقة عشوائية شديدة الخطورة من عينة الدويقة، التي سقطت صخورها على رؤوس البسطاء في 2010، تمت إزالتها وتوفير مساكن آمنة لأصحابها، هو حق في الحياة الكريمة، والسكن اللائق، المشروعات الصناعية والزراعية وفرت آلاف فرص العمل، وتراجع مؤشر البطالة والفقر.

تراجع مؤشرات الأزمات، يعني زوال جزء كبير منها، وإن بقي بعضها، فأدعى  لمواصلة العمل، لإزالة آلام الجميع،  لكن غير المنظور في ثمار تلك الإنجازات، هو زوال الأمراض الاجتماعية التي كانت تنتجها العشوائيات، القضاء على المخاطر المؤكدة.

ففي سكن غير آمن، بلا بنية تحتية ولا خدمات، حياة الأطفال مهددة، فرص تعليمهم منعدمة، لا ملاعب ولا مستشفيات، الانحراف أقرب إليهم من أي شيء آخر،  إلا من حفظه الله.

نقل هؤلاء الآباء والأمهات، لمجتمعات حديثة تتوافر بها الرعاية والخدمات، استثمار في البشر، انتشال للأطفال من مخالب وأنياب العشوائيات، حماية لمستقبل الجيل القادم، اقتلاع الأزمة من جذورها، عدالة اجتماعية، وحماية مجتمعية، كرامة إنسانية، تطهير لتربة مهملة، اقتلاع حشائشها، وأد لبذور الانحراف والعنف، حماية للنبت الطيب، رعاية له لينمو ويثمر.

الكنز الثمين الخفي

في أعمار الأوطان، عشرات السنين، كاليوم في حياة البشر، وقد شهد عام 2018 نمو بذور التنمية، يهدي 2019 مهمة جني ثمار ما أنُجز، وإن كان الظاهر من المشروعات، ما هو مادي وملموس في شكل صوب زراعية ومزارع سمكية، ومناطق صناعية، فإن ما يشغلني هو الإنجاز غير المرئي للكثيرين الآن، وهو الأهم والأبقى.

ما أقصده بالإنجاز الأهم، الغائب عن الأبصار، هو الكنز الثمين، الذي تُنقل جواهره يوميَا من أنحاء العالم كافة إلى المصريين، هو الخبرات العالمية، عبر توطين التكنولوجيا، لخلق خبرات مصرية، متقنة لأحدث تطبيقات العمل في أهم المجالات، الأمر الذي يمنح المصري المُبدع فرصة للوقوف على أكثر نقطة تقدمًا يقف عليها المتحضر من العالم، وهي نقطة أثبت التاريخ، في حلقاته، أن العبقرية المصرية، عندما تنطلق منها، تتفوق على أكثر الدول تقدمًا.

أمثلة لا حصر لها، لم يكن لمهندسي شعبنا العظيم، سابق خبرة بتكنولوجيا حفر الأنفاق العملاقة، وما إن بدأنا في حفر أنفاق قناة السويس وبعد تدريب قصير الزمن، أتقن المصري الخبرة، وتفوق على صانعي الماكينات في الزمن القياسي لتركيبها وتشغيلها، وتحقيق مستهدفاتها، وهذا مثبت في شهادات ثناء من الشركات العالمية المصدرة للماكينات والمتخصصة في تشغيلها.

توطين تكنولوجيا حفر الأنفاق وامتلاك ماكيناتها، كنز يعطي الشركات المصرية فرصة تنافسية كبيرة، في أعمال الإنشاءات والتعمير في دول عربية وإفريقية، خلقًا لفرص عمل،  فضلًا على الاكتفاء بالشركات الوطنية في إنجاز المشروعات القومية اللاحقة.

وبالأمس كان توطين جديد، لتكنولوجيا الزراعات الحديثة المحمية، في صوب، تلك التكنولوجيا التي ما إن يتقنها المصري، حتى يحول الزراعة في مصر إلى ثورة خضراء، فهو حفيد الفلاح الفصيح، مزارع منذ عهد الفراعنة، ثورة في تكنولوجيا الزراعة، توفر المياه وتعاظم القدرة الإنتاجية للفدان، وتحقق ربحية المزارع، وتلاحق احتياجات الزيادة السكانية، وتخفض الأسعار بتحقق الاكتفاء والتصدير.

توطين الخبرات الألمانية والنمساوية، في مجال التعليم التطبيقي، باتفاقات إنشاء جامعات تطبيقية في العاصمة الإدارية الجديدة، توطين تكنولوجيا زراعة الأسماك من خلال شراكات مع شركات عالمية، يولد لدى المصري خبرة ينقلها البعض للكل في ذات المجال.

 يبتكر ويطور من حيث انتهى العالم، هذا هو الكنز غير المرئي، هذا هو استثمار الخبرة والعلم للمستقبل، فضلًا على إصلاح منظومة التعليم العام لاستبعاد فلسفة الحفظ والاستذكار لترسيخ الإبداع والابتكار.

توطين الخبرات، بأحدث مستجدات تطبيقات العلم، في الزراعة والصناعة والتعليم، هو استثمار في الزمن، شراء ما فات لسد فجوة زمنية علمية أبعدت مصر عن العام المتقدم،  حماية للوطن والمواطن من  التباطؤ، وما يترتب عليه من خراب ودمار ودفع المزيد من فواتير المعاناة الناجمة عن تخاذل سابقين في إجراء الجراحات الإصلاحية.

عام 2018، شهد من الإنجازات غير المرئية للغالبية العظمى، ما هو أثمن من المرئي وإن جَعل البعض أَصَابِعَهم فِي آذَانِهم حذر سماع صوت الحق، وإن استَغشوا ثِيَابَهمْ وَأَصَرُّوا واستَكبروا استِكبَارًا حتى لا يروا الواقع.

سطرت أيام العام الراحل، تاريخ صُنع درجة فولاذية بسُلم الارتقاء الوطني، فكريًا وتنمويًا، وتكنولوجيًا، تصعد بشعب مصر لمرتبة أعلى، تؤهله لمزيد من الصعود، لبلوغ  درجة من جودة الحياة يستحقها.

 إذا ما تواصل البناء العادل يمكن لمصر- في مدى ليس بعيد بعُمر الأوطان- بلوغ نقطة عادلة، تؤهلها للانطلاق في سباق الحضارة، التي كانت يومًا ما هي رائدة العالم بها، أفلا تنظرون إلى الأهرامات كيف نُصبت؟! إنها مصر القادرة والمصريين العباقرة. نقلا عن روزاليوسف

Ayman.rosal2016@gmail.m