المعجنة!

المعجنة!

بقلم : محمد نجم

من منكم من أصول ريفية.. مثلي سواء أكان من بحري أم من الصعيد يعلم ما معنى «المعجنة»!

 

أما الإخوة أصحاب «الياقات البيضاء» فنقول لهم إن المعجنة عبارة عن «راتش» المباني، أي تراب وتبن وعفش وبعض الحصى.. وتجمع كل هذه الأشياء مع بعضها ويصب عليها الماء، ويتم خلطها وعجنها مع بعضها بالأيدي أو بالأرجل، ثم يعاد استخدامها كقوالب من الطوب اللبني، أو بتمحير المبنى الريفي وكأنها أسمنت!

 

المهم أنه يمكن استخدام ناتج هذه المعجنة بعد إعادة تأهيله في بناء صروح جديدة.. قوية وجميلة وصالحة للاستخدام.. سواء كان ذلك في صورة قصر أو منزل أو مجرد سور لأرض فضاء.

 

هذا ما فهمته بعد مشاهدة مسرحية «المعجنة» التي كتبها د. سامح مهران، والتي تعرض حاليا على خشبة المسرح القومي العريق.

 

حيث قدم لنا المؤلف في الفصل الأول أسرة مصرية تعيش في حي شعبي، تعاني من بخل الأب المنحل أخلاقيا، وأم تركت المنزل لتخدم في بيت رجل طيب (الحلواني) الذي أوصاها بالاهتمام بابنته الوحيدة (تحفة)، بينما الابن (مفتاح) يداعب صديقته ويتهرب من الزواج منها، فيما شقيقته (حكاية) تخفي صديقها تحت السرير!

 

وعندما يحضر الأب إلى المنزل في ساعات الليل المتأخر ينكشف «المستخبي» ويبان! ولأن «الانحلال» سمة الأسرة جميعها، يحاول الأب إغواء صديقة ابنه وتسارع هي بالزواج منه بعد أن علمت بثرائه الفاحش وأمواله المكنوزة!

 

ثم نفاجأ بحضور الأم بصحبة الفتاة الصغيرة بنت مخدومها ويدور حوار المعايرة بين جميع أفراد الأسرة حول البخل والانحلال وعنف التعامل، فتدعو الفتاة على الأب بالوفاة، فيصاب بأزمة قلبية ويموت!

 

حتى الآن.. كنا نتعرف على الأسرة وأحوال أفرادها، وبدأ الفصل الثاني ببحث الأسرة عن أموال الأب المخبأة، وخاب ظنهم ولم يعثروا على شيء، فيستدعون أحد الشيوخ لتحضير «الجن» الذي سيكتشف الكنز!

 

ونكتشف أن «الشيخ» مفتح يبدو في مظهر الضرير اللعوب، ومع ذلك يحاول وينجح في تحضير «روح» الأب، وتظهر الروح في صورة «فرعون» يؤنب أفراد الأسرة على ما آل إليه حالهم، ثم يحاول إغراء البنت التي ترغب في الفرح والسترة بالزواج منه، وتصعد معه إلى المقبرة، ولكن تسارع الأسرة بالاستعانة بالشرطة والإسعاف فيعيدانها إلى «الواقع» مرة أخرى، ويتم زواجها من حبيبها وتتم زفة العروس على أنغام وصوت الفنان علي الحجار.. بأغنية «أنت المدد»!

 

هذه هي «حدوتة» المسرحية باختصار، وبما أنني لست ناقدًا فنيًا مثل د. ياسمين فراج أستاذ النقد الموسيقي بأكاديمية الفنون، ومثل صديقي جرجس شكري الذي كتب عن المسرحية بإسقاطاتها وهجومها على التاريخ الفرعوني.. إلخ، فإنني سأركز على ما فهمته كمتذوق للشعر والمسرح.

 

وأعتقد أن المؤلف نجح في رسم صورة حقيقية لما يعانيه بعض أهلنا من قاطني الأحياء الشعبية، خاصة عندما يكون رب الأسرة لاهيا وبخيلا، وعندما تعتقد الأم أنها تنجو من هذا الجحيم بهروبها من المنزل، وتترك أبنائءها يصارعون أمواج الحاضر البائس والمستقبل الغامض.

 

والنتيجة المتوقعة في مثل هذه الحالة أن يحاول الأبناء البحث عن متعة مؤقتة عوضا عن تحقيق رغباتهم المشروعة.. مثل كل الشباب والفتيات!

 

واستكمالا لـ«الصورة» لما يحدث في تلك الأحياء، فهذا الشيخ مدعي العمى، يحاول مساعدة الأسرة في البحث عن الأموال المخبأة.. التي لم تظهر حتى نهاية المسرحية!

 

فهل كان المؤلف «يرمز» إلى مصر بعد الانفتاح وتدهور أحوال كثير من الأسر البسيطة فيها، لا أعلم.. فالمعنى في بطن الكاتب! ولكننب فهمت ماذا يقصد بالمعجنة التي أشرت إليها في بداية المقال.

 

ولست أعلم هل عودة روح الأب في صورة «فرعون» من الماضب تحميه قوات أو ميليشيات مسلحة! ويحاول العودة بالأسرة المصرية إلى عالمه الخاص، هل كان المؤلف يقصد بذلك الإخوان الذين كانوا يرغبون بالعودة بنا إلى الماضي؟ حيث السمع والطاعة العمياء إلى المرشد العام؟! أم أنه كان هجوما على «التاريخ»؟ مرة أخرى لا أملك سوى القول بأن المعنى في بطن الكاتب!

 

لكن أعجبني «اللقطة» الختامية للمسرحية حيث تمكنت القوة ممثلة في ضابط الشرطة ومعها العلم ممثل في طبيب الإسعاف، في العودة إلى مصر «البنت حياة» إلى الحاضر وإنقاذها من محاولات «الاختطاف» إلى الماضي!

 

فهل كان المؤلف يقصد بتلك «اللقطة» الإشارة إلى ثورة 30 يونيو- كما يقول صديقي- مصباح قطب؟ لا أعلم.. ولكن ربما!

 

على أي حال.. وبعيدًا عن الرمز.. والإسقاط.. وكل أدوات النُقّاد المسرحيين، فقد استمتعت بمشاهدة المسرحية، حيث أداء جميل حيوي من ممثلين شباب، ورقصات تعبيرية معبرة عن الأحداث، وموسيقى ناعمة مناسبة لحركة الممثلين.

 

ثم ديكور مبهر برؤية فنية معبرة سواء منزل الأسرة في الفصل الأول، أو مقبرة الفرعون في الفصل الثاني، ناهيك عن توزيع الأضواء على خشبة المسرح والتي أحسن المخرج الواعد أحمد رجب استخدامها.

 

والخلاصة أن «المعجنة» التي كانت فيها مصر قبل 30 يونيو- إن صح الرمز- أعيد هيكلتها وجارٍ حُسن استخدام مكوناتها، والأهم أن مصر فاقت من غفوتها ولم تستسلم لمحاولات جذبها للماضي التعيس.. فنهضت مستبشرة سعيدة.. لتبدأ من جديد.. وكما غنت فيروز:

 

مصر.. عادت شمسك الذهب. .. نقلا عن روزاليوسف