الفقيه الذي عذَّبنا!

الفقيه الذي عذَّبنا!

بقلم : هاني عبدالله

فى خلفية المكتبات التى تُزين أحاديث «مشايخ السلفية»، خلال أغلب لقاءاتهم الفضائية؛ ثمة كتابٌ «شبه متواجد» دائمًا (!)، إذ يُعد أحد المراجع الرئيسية للتيار (!).. والكتاب يتحدث عن مناقب «ابن تيمية».. لكن.. صدق أو لا تصدق، لا يكتسب الكتاب شهرته [بين مشايخ الدعوة] من أهميته بقدر ما يكتسبها من شخصية مُحققه (!)، إذ كان مُحقق هذا الكتاب، هو الشيخ «محمد  حامد الفقى» (مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية).

 

 

الكتاب.. هو «العقود الدُّريَّة فى مناقب ابن تيمية».. ويُنسب بهذا الاسم لـ«ابن عبدالهادى المقدسى» (أحد تلاميذ ابن تيمية).. لكن.. صدق أو لا تصدق (للمرة الثانية)، ليس من بين مؤلفات «محمد بن عبدالهادى المقدسى» ما يحمل اسم «العقود الدرية» (!)

 

 

وأصل الحكاية.. أنَّ من اختلق تلك التسمية – من حيث الأصل – هو الشيخ الفقى (نفسه)، قبل أن يُحقق مخطوط الكتاب الذى كان بين يديه (!).. وكان هذا عندما بدأ الشيخ الفقى فى تحقيق كتاب: [الذيل على طبقات الحنابلة] لابن رجب.. وعندما أتى عند مؤلفات «ابن عبدالهادى» وضع هامشًا لمؤلفه الخاص بـ«ترجمة الشيخ تقى الدين ابن تيمية» يقول: [وقد أسماها: «العقود الدرية فى مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية].. ثم.. حقق الشيخ «مخطوط الترجمة» تحت الاسم الذى اختاره، ولم يختره مؤلفه الأصلى (!)

 

 

أى أنّ الشيخ الفقى، هو من قرر ونفذ [من عندياته] ومن دون تثبت، أو بذل مزيد من الجهد فى التحقيق، أو حتى ترك الكتاب باسمه الشائع فى مؤلفات الحنابلة (!).. وفى الواقع.. كان الشيخ عندما وضع هذا العنوان للكتاب، كان مُتأثرًا بكتاب آخر، هو [الأعلام العلية فى مناقب ابن تيمية] للبزَّار.. وظل الجميع يتداول هذا المُصنف بهذا الاسم إلى أن ظهرت النسخة الأصلية للكتاب تحت مُسمى [الانتصار] فى العام 2012م (طبعة وزارة الأوقاف/ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية/ مركز السيرة والسُّنّة).

 

 

ورُغم أنّ الخلط كثيرًا ما يحدث بين مُسميات الكتب وبعضها البعض [فى مجال تحقيق التراث].. إلا أن حقيقة الأمر تتضح – فى النهاية – بعد بذل مزيد من الجهد فى التحقيق.. أما ما فعله «الشيخ الفقى» مع هذا المُصنف، فيدخل فى باب [التلفيق] المُتعمد، لا الخلط والخطأ [الوارد].. ومع ذلك.. ظلَّ أبناء «التيار السلفى»، إلى اللحظة، يتداولون الكتاب تحت الاسم الذى وضعه شيخهم (!).. وأغلب الظن أنهم لا يُراجعون أى إنتاج فكرى خارج دائرتهم نفسها (!)

 

 

وفى الحقيقة.. إن الأزمة الأساسية للتيار السلفى بشقيه: «الدعوى» و«الجهادى» مع ابن تيمية (صاحب المناقب!)، هى نفسها (كما تعكسها الرواية السابقة) أزمتهم [المُستمرة] مع شيوخهم المعاصرين (أي: أزمة التقديس، والتنزيه).. وهى أزمة تعكس – يقينًا – حالة ممتدة من حالات [فقدان الأهلية الفقهية] للاجتهاد.. إذ لا يراعى هذا التيار (ومن سار على شاكلته من روافد الإسلام السياسي) تغير الأحكام بتغير [المكان والزمان والحال والعُرف].

 

 

لذلك.. كان «ابن تيمية» (ولا يزال) هو الرافد الأول لتشكيل الفكر السلفى بشقيه (الدعوى والجهادي).. وأفرز «الجمود السلفى» عند أفكار ابن تيمية (تيارات أكثر استغلالاً لعنفه الفكري)، وبتنا أمام تنظيمات مثل [القاعدة] و[داعش].

 

 

وفى الحقيقة.. فإن توصيف «العنف الفكرى» لابن تيمية، ينبع من توصيفات عدة ساقها معاصروه (أو شيوخ معروفين) فى سياق تحليل شخصية «الفقيه الذى عذَّبنا».. إذ كان كثير المراوغة، مُعجبًا بنفسه (!).. يقول «ابن بطوطة» فى رحلته: [ … كنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته (أي: ابن تيمية) يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم. فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولى هذا ، ونزل درجة من درج المنبر.. فعارضه فقيه مالكى يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به. فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدى والنعال ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامته].

 

كما كان عنيدًا، سليط اللسان، عجولاً فى إلقاء التهم على الخصوم.. يقول الحافظ «ابن حجر» فى (الدرر الكامنة): [قال الشهاب بن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة فى سنة سبعمائة … حضر عنده شيخنا أبو حيان، فقال: ما رأت عيناى مثل هذا الرجل.. ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها، منها:

 

 

قام ابن تيمية فى نصر شرعتنا … مقام سيد تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضرُ

فأظهر الدين إذْ آثاره دَرَسَت … وأخمد الشرك إذ طارت له شررُ

كنا نُحدَّثُ عن حبر يجيء فها.. أنت الإمام الذى قد كان ينتظرُ.

 

 

قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلط ابن تيمية القول فى سيبويه فنافره أبو حيان وقطعه بسببه (أى خاصمه).. ثم عاد ذامًا له (أى ذامًا لأبى حيان أيضًا)، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.. قال: وحج ابن المحب سنة 734 فسمع من «أبى حيان» أناشيد.. فقرأ عليه هذه الأبيات.. فقال قد استبعدتها من ديوانى ولا أذكره.. فسأله عن السبب فقال: ناظرته فى شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال ليس بشىء.. قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب].

.. أى أن «أبا حيان» انتهى إلى أنه لا طائل من الحديث معه (!)

 

 

لكن.. أيًا كانت صحة ما يُقال عن تحليل شخصية «ابن تيمية» فى كتب التراث (وهو كثير بالمناسبة).. إلا أن ثمة شواهد عديدة فى منتجه الفقهى،تُظهر كثيرًا من «العنف الفكرى».. إذ لم يكن يترك أى مساحة لمخالفيه، وكثيرًا ما كان يُنهى فتاواه (حتى فى الأمور البسيطة) بعبارة تقول: [يُستتاب وإلا قُتل!].. وبنظرة جامدة لمنتجه الفقهى (الذى أتى إلينا من القرون الوسطى) أعادت روافد تيار «السلفية الجهادية» تقديم فتاواه حول وجوب الجهاد (وكفر بيئة الحكم)، بأكثر من طريقة، وفى أكثر من حقبة زمنية.. وبات «ابن تيمية» مرجعية (لا غنى عنها) بالنسبة لشيوخ التطرف كافة.

 

فإلى جوار «أبى الأعلى المودودى» كان [فكر ابن تيمية] هو أحد المناهل التى استقى منها «سيد قطب» مفهوم جاهلية المجتمع.. إذ بات على قناعة بأنَّ «العالم» يحكمه الفساد وغارق فى جاهلية حديثة.. وبالتالى.. يتوجب على المؤمنين العمل على فرض «حاكمية الله» فى الأرض.. وهو ما مثَّل – فى حد ذاته – تأصيلاً لاتجاهات العنف داخل «جماعة الإخوان».. إذ فى تقديرنا الخاص، كان «حسن البنا» هو أول من وضع بذرة العنف وتكفير المجتمع داخل الجماعة (لا سيد قطب).. إذ قسَّم «البنا» الناس ومواقفهم من دعوة الإخوان إلى: مؤمن: (ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا)، متردد: (نتركه لتردده ونوصيه أن يتصل بنا عن كثب)، نفعي: (الله غنى عمن لا يرى لله الحق الأول فى نفسه)، متحامل: (وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا وإقناعه بدعوتنا). فإما أن تكون مؤمنًا أو مترددًا أو نفعيًا أو متحاملاً.. وعليك أن تختار من بينها ما تشاء (!)

 

 

.. كما كانت تؤصل ــ تدريجيًّا ــ لمفهوم «جاهلية المجتمع» الّذِى نادى به، صراحة، «سيد قطب» فيما بعد.. ففى رسالة (إلى الشباب) يقول البنا: إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تمامًا ماذا نريد، ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة:

 

 

أ- نريد أولاً الرجل المسلم فى تفكيره وعقيدته، وفى خُلُقِه وعاطفته، وفى عمله وتصرفه، فهذا هو تكويننا الفردى.

 

 

ب- ونريد بعد ذلك البيت المسلم فى تفكيره، وعقيدته، وفى خُلُقه، وعاطفته، وفى عمله وتصرفه، ونحن لهذا نعنى بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعنى بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسرى.

 

 

ج- ونريد بعد ذلك الشعب المسلم فى ذلك كله أيضًا، ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يُسمع صوتنا فى كل مكان، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل فى القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألو فى ذلك جهدًا، ولا نترك وسيلة.

 

 

د- ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة الّتِى تقود هذا الشعب إلى المسجد، وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد.

 

 

هـ- ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كلَّ جزء من وطننا الإسلامى،الّذِى فرقته السياسة الغربية، وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية، فمصر وسوريا والعراق والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وكل شبر أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله، كلُّ ذلك وطننا الكبير الّذِى نسعى لتحريره.

 

 

و- ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع الّتِى سعدت بالإسلام حينًا من الدهر، ودوَّى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل، ثم أراد لها نكد الطالع أن ينحسر عنها ضياؤه فتعود إلى الكفر بعد الإسلام، فإن من حقنا أن نعيد مجد الإمبراطورية الإسلامية الّتِى قامت على العدالة والإنصاف ونشر النور والهداية بين الناس.

 

 

ز- نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم، وأن نبلغ الناس جميعًا، وأن نَعُمَّ بها آفاق الأرض، وأن نُخْضِع لها كل جبار؛ }حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ{ (الأنفال: من الآية 39)، }وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ { (الروم).

 

 

.. وبقراءة سريعة للمساعى الّتِى كتبها البنا بنفسه كأهداف لجماعته؛ فإن الملاحظ هو إسقاطه صفة «الإسلامية» عن النماذج الّتِى طرحها جملة وتفصيلاً. فلا يعنى أنه يريد الفرد المسلم، سوى أنه ليس موجودًا من حيث الأصل. ولا يفهم من أنه يريد البيت المسلم إلا أنه لم يعد هناك من يشيّد كيانه الأسرى على نهج «قويم».. وكذلك الأمر بالنسبة للشعب والحكومة اللذين هجرا – بحسب تصوره – التعاليم الإسلامية إلى حيث لا رجعة (!)

 

 

وفى الواقع.. كان أن طور «سيد قطب» (بعد انضمامه إلى الإخوان) من مضمون كلام البنا (اعتمادًا على أفكار ابن تيمية المودودي).. إذ يقول فى مقدمة كتابه المثير للجدل [معالم فى الطريق]:

 

 

الإسلام لا يملك أن يؤدى دوره إلا أن يتمثل فى مجتمع، أى يتمثل فى أمة.. فالبشرية لا تستمع – وبخاصة فى هذا الزمان – إلى عقيدة مجردة، لا ترى مصداقها الواقعى إلا فى حياة مشهودة.. و«وجود» الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة… فالأمة المسلمة ليست «أرضًا» كان يعيش فيها الإسلام. وليست «قومًا» كان أجدادهم فى عصر من العصور يعيشون بالنظام الإسلامى.. إنما «الأمة المسلمة» جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامى.. وهذه الأمة بهذه المواصفات، قد انقطع وجودها منذ أن انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا… ولابد من إعادة هذه «الأمة» لكى يؤدى الإسلام دوره المرتقب فى قيادة البشرية مرة أخرى… لابد من «بعث» لتلك الأمة التى واراها ركام الأجيال وركام التصورات، وركام الأوضاع، وركام الأنظمة التى لا صلة لها بالإسلام، ولا بالمنهج الإسلامى.. وإن كانت لا تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى «العالم الإسلامى» (!)

 

وبين المقدمات والنهايات، كانت فكرة «الحاكمية» هى الأظهر بين صفحات الكتاب، حيث لا حكم إلا لله.. ولا يوجد إلا حزبًا واحدًا لله لا يتعدد، وأحزابًا أخرى كلها للشيطان والطاغوت.

 

 

يقول قطب فى الفصل الذى يحمل عنوان «جنسية المسلم وعقيدته» :

 

 

إنَّ هناك طريقًا واحدًا يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدى إليه.. وأن هناك نظامًا واحدًا هو النظام الإسلامى، وما عداه من النظم فهو «جاهلية».. وأنَّ هناك شريعة واحدة هى شريعة الله، وما عداها فهو هوى.. وأن هناك حقًا واحدًا لا يتعدد، وما عداه فهو ضلال… وأن هناك دارًا واحدة هى دار الإسلام، تلك التى تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضًا، وما عداها فهي «دار حرب»، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين.

 

 

وبين تكفير المجتمع ووصمه بـ«الجاهلية»، وبين نفى الآخر نفيًا تامًا.. كانت أفكار الحاكمية (المتأثرة بأفكار القرون الوسطى) هى الأساس الذى اعتمدت عليه «التنظيمات المسلحة» التى شهدتها الساحة المصرية فى فترتى السبعينيات والثمانينيات، وما تبعها من جماعات وخلايا وصفت بـ«الجهادية» (تنظيمات ما قبل القاعدة).. كما كانت المصدر الرئيسى الذى ما زال ينهل منه تنظيما: [القاعدة]، و[داعش] إلى اللحظة! نقلا عن روزاليوسف