الدولة اليقظة

الدولة اليقظة

بقلم : هاني عبدالله

لـ«بيتر بينيسون»، مؤسس منظمة العفو الدولية، عبارة «محورية» تقول: [عندما فقط يتم الإفراج عن آخر سجين رأى، وعندما فقط يتم إغلاق آخر غرفة إعدام، وعندما فقط يصبح الإعلان العالمى واقعًا ملموسًا لشعوب العالم، سنكون إذًا قد أنجزنا عملنا].. العبارة (فى السياق الإنسانى) لا يُمكن أن نختلف حول تفاصيلها كثيرًا.. لا أحد يُريد أن يكمم أفواه أصحاب الرأى (إلا من لا يرون إلا صورهم فى المرآة).. ولا أحد – أيضًا – يتخذ موقفًا مناهضًا للإعلان العالمى لحقوق الإنسان (إلا قوى التطرف الدينى والإرهاب).. كما يُطالب عديدٌ من النظم القانونية «المعاصرة» بتحجيم «عقوبة الإعدام» (مع الاحتفاظ ببعض الاختلافات التطبيقية، وفقًا لبشاعة الجُرم المُرتكب).

 

 

تُمثل «الجوانب الثلاثة» فى عبارة «بينيسون» نقطة ارتكاز «مُهمة» فى أدبيات «الملف الحقوقى».. كثيرٌ من المنظمات الدولية، والإقليمية تتبنى وجهة النظر نفسها.. المبدأ لا يُمثل أزمة.. لكن قد يكون «التطبيق» كذلك (!).. فمن «ناحية التطبيق»، تبقى الأزمة «المُزمنة» فى ملف حقوق الإنسان، هى أزمة «التسييس» (أى التوظيف السياسى) على المستوى الدولى.. إذ كثيرًا ما تختلط «الأوراق الحقوقية» بالأجندات السياسية(!)

 

 

..وتُصبح – أحيانًا – مواجهة «الأفعال الجنائية» نوعًا من أنواع تكميم الأفواه [وتقويض حرية التعبير!].. ويتحول أعداء «الإعلان العالمى لحقوق الإنسان» (ذوو التطرف والإرهاب) إلى ضحايا، تظللهم «أجندات التوظيف السياسى»(!).. ويجد عددٌ من «أعداء الحياة» من يطالب لهم بالحياة (!).. وهنا – على وجه التحديد – تُسفك دماء «القيم العليا» على مذابح السياسة (!)

 

 

ففيما كان «الوفد المصرى» يتجه نحو «نيويورك» للمشاركة بفعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ كان ثمة تقرير من هذا النوع يتم ترتيبه للنيل من «القاهرة».. التوقيت هنا له دلالة.. ورد الفعل «المصرى» له دلالة أهم.. التوقيت يُمثل تحركًا مقصودًا؛ لإحراج «الدولة المصرية» أمام المُجتمع الدولى.. ورد الفعل المصرى (السريع) مثَّل نموذجًا «عميقًا» لما يُمكن أن نطلق عليه [الدولة اليقظة].

 

 

[الدولة اليقظة] هنا.. تتنبه جيدًا لكل ما يُقال عنها.. وتتحسب – كذلك – لكل ما يُجهز ضدها.. لذلك؛ يُمكننا فى سياق الحديث عن مفهوم [الدولة اليقظة] أن نتفهم كثيرًا من أبعاد الأجزاء الخاصة بـ«قضايا حقوق الإنسان» فى خطاب «الرئيس السيسى» أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (خصوصًا الجزء الأخير من الخطاب).. إذ طالب الرئيس بضرورة معالجة أوجه القصور فى تعامل «المجتمع الدولى» مع قضايا «حقوق الإنسان»، إذ لا مجال لاستعادة [مصداقية الأمم المتحدة] ما دام يعانى الملايين من فقر مدقع، أو يعيشون تحت احتلال أجنبى، أو يقعون ضحايا للإرهاب والصراعات المسلحة.

 

 

.. وقال الرئيس: إن حماية حقوق الإنسان لن تتحقق بـ«التشهير الإعلامى»، وتسييس آليات حقوق الإنسان، وتجاهل التعامل المنصف مع مجالات حقوق الإنسان كافة، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

 

 

توسع «الدولة المصرية»، هنا، من مظلة مفهوم «حقوق الإنسان».. فعلاج أزمات «الفقر»، جزءٌ أصيل من حقوق الإنسان.. والقضاء على «الاحتلال الأجنبى»، هو جوهر حقوق الإنسان.. والحفاظ على أرواح البشر من براثن الصراعات المُسلحة والإرهاب، هو ذروة الهرم فى ملف حقوق الإنسان.. فلماذا – إذًا – لا تتكاتف الجهود الدولية للقضاء على كل تلك الأزمات، جنبًا إلى جنب، مع المساحات الأخرى التى تحظى بتركيز «التقارير الدولية»؟!

 

 

والإجابة معروفة يقينًا؛ إذ إنّ مساحات «التوظيف السياسى» فى القضايا التنموية، أقل من غيرها.. لذلك.. كان أن تابع الرئيس: [إن مصر تمتلك أساسًا دستوريًا راسخًا لحماية حقوق الإنسان بـ«أشمل معانيها»، وقد شهدت قفزات نوعية خاصة فى مجال تمكين المرأة والشباب.. فباتت المرأة تشغل 25 % من المناصب الوزارية، وأكثر من 15 % من مقاعد البرلمان، كما يتم الاعتماد على الشباب فى مختلف المناصب القيادية بالدولة.. وصارت المؤتمرات الدولية للشباب التى تعقد فى مصر سنويًا محفلاً دوريًا وثابتًا للتواصل بين الشباب والتعريف بشواغلهم وأولوياتهم.. ونحن عازمون على أن نجعل قضية «التمكين الاقتصادى» للمرأة، إلى جانب قضايا الشباب وقضايا العلوم والتكنولوجيا والابتكار، فى طليعة أولويات رئاسة مصر لمجموعة الـ77 والصين، كنموذج عملى لتطبيق التزامنا بمفهوم شامل للارتقاء بأوضاع حقوق الإنسان بأوسع معانيها].

 

 

فعلى مدار أعوامٍ مضت، ومن دون التعامل مع ملف حقوق الإنسان بـ«مفهومه الشامل»؛ كان أن أصبحت مصداقية «العمل الدولى» على المحك.. وبات كثيرٌ من الدول رهنًا لعمليات التشكك فى جدوى المنظمات الدولية.. ولذلك أيضًا؛ كان أن شدد «السيسى» قائلاً: [إن لمصر، كما للغالبية الساحقة من شعوب ودول العالم، مصلحة أكيدة فى استعادة مصداقية العمل الدولى «متعدد الأطراف» ودور الأمم المتحدة كقاطرة له.. ونحن نؤمن بأن المنظمة قادرة على تجاوز التشكيك فى جدواها ومصداقيتها من خلال استعادة المبادئ السامية التى تأسس عليها ميثاق المنظمة، والعمل وفقًا للأولويات التى تناولتها، والتى تعكس طموحات شعوبنا. فبذلك فقط، تستعيد منظمتنا مصداقيتها، وتستعيد شعوبنا ثقتها فى مستقبل قائم على السلام والتعاون واحترام الآخر].

 

 

منذ بداية «خطاب الرئيس» تقريبًا، كانت اللغة شديدة الوضوح [والمباشرة] فى التأكيد على وجود خلل «صارخ» بمنظومة العمل الدولى.. إذ قال: [من منطلق المصارحة، أرى أن علينا أن نعترف بأن ثمة خللاً يعترى أداء المنظومة الدولية، ويلقى الكثير من الظلال على مصداقيتها لدى كثير من الشعوب، خاصة فى المنطقتين العربية والإفريقية اللتين تعيش مصر فى قلبيهما.. فكيف نلوم عربيًا يتساءل عن مصداقية الأمم المتحدة وما تمثله من قيم فى وقت تواجه فيه منطقته مخاطر التفكك وانهيار «الدولة الوطنية» لصالح موجة إرهابية وصراعات طائفية ومذهبية تستنزف مقدرات الشعوب العربية.. أو يتساءل عن عدم حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة للعيش بكرامة وسلام فى دولة مستقلة تعبر عن هويته الوطنية وآماله وتطلعاته؟.. وهل يمكن اعتبار الإفريقى مغاليًا إن شكا من انعدام فعالية النظام العالمى، بينما تعانى قارته من نظام اقتصادى يُكرس الفقر والتفاوت، ويعيد إنتاج الأزمات الاجتماعية والسياسية، ولا يتيح آفاقًا للتطور أو التقدم؟].

 

 

رسالة [العدالة الدولية] التى حملتها «القاهرة» معها إلى «نيويورك»، مثّلت – قطعًا – عديدًا من تطلعات الدول «الساعية للنمو» (وهو ما أكدته أيضًا كلمة الرئيس أمام دول مجموعة الـ 77).. إذ لطالما جُوبِهت تلك الدول فى الماضى بـ«أجندات الاستغلال»، واستنزاف الموارد.. فالدول النامية (وفقًا لنص خطاب الرئيس بالجمعية العامة) لا تحتمل العيش فى منظومة دولية لا يحكمها القانون والمبادئ السامية التى تأسست عليها الأمم المتحدة.. إذ كثيرًا ما تكون عُرضة للاستقطاب ومحاولات هيمنة البعض على النظام الدولى، وفرض توجهات بعينها على أعضائه.

 

 

لذلك كان أن حدد «الخطاب» ثلاثة مبادئ تحكم رؤية مصر، فى استعادة «الأمم المتحدة» لفعاليتها ودورها، منها:

 

 

(أ) لا مجال لحديث عن تفعيل النظام الدولى إذا كانت وحدته الأساسية (أى: «الدولة الوطنية» القائمة على مفاهيم المواطنة والديمقراطية والمساواة)، مهددة بالتفكك.. إذ إنّ تفكك الدول تحت وطأة النزاعات الأهلية والارتداد للولاءات الطائفية بديلاً عن الهوية الوطنية هو المسئول عن أخطر ظواهر عالمنا المعاصر، مثل: النزاعات المسلحة، والاتجار بالبشر، والهجرة غير المشروعة، والجريمة المنظمة والتجارة غير المشروعة فى السلاح والمخدرات.

 

 

(ب) الالتزام بإيجاد حلول سلمية مستدامة للنزاعات الدولية.. إذ إن هذا الأمر هو المبرر الأساسى لنشأة الأمم المتحدة.. وعلى الرغم من جهود المنظمة الدولية فى نزاعات عديدة، فإنّ تلك الجهود ما زالت قاصرة عن إيجاد التسوية النهائية للنزاعات.. فالقضية الفلسطينية (على سبيل المثال) ما زالت تقف دليلاً على عجز النظام الدولى عن إيجاد الحل العادل المستند إلى الشرعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

 

 

(ج) الالتزام بتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة بوصفها الشرط الضرورى لنظام عالمى مستقر، وأفضل سبل الوقاية من النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية.

.. فالالتزام الدولى بالحفاظ على [الدولة الوطنية]، و[التسوية السلمية للنزاعات]، وتكثيف التعاون لتحقيق [التنمية الشاملة]، ومعالجة أوجه الخلل فى النظام الاقتصادى العالمى تمثل شروطًا ضرورية لأى حديث جاد عن تفعيل منظومة الأمم المتحدة، واستعادة مصداقيتها. نقلا عن روزاليوسف