يَومَ ذَهَبَ الشَيْخُ لِلِقَاءِ رَبِه!

يَومَ ذَهَبَ الشَيْخُ لِلِقَاءِ رَبِه!

بقلم : د. شريف درويش اللبان

استيقظت مدينةُ الخانكة بمحافظة القليوبية- التي تقع شمالَ محافظةِ القاهرة صبيحةَ الجمعة الماضي- على خبرٍ مُفجع انتشرَ انتشارَ النارِ في الهشيم؛ فقد ماتَ الشيخُ أحمد الحجار إمامُ مقرئي القرآن في مدينة ومركز الخانكة، لتنتهي بذلك سلسلةٌ طويلة من المُقرئين العِظَام الذين كتبوا أسماءَهم بأحرفٍ من نور في خدمةِ كتاب الله عَبْرَ سنواتِ العمرِ الطويلة أمثالِ الشيخِ محمد الجمل والشيخ سعيد عيسى والشيخ سيد اللبان (الكبير) والشيخ عبد الله عُمران وغيرهم، لتبقى البركةُ في المقرئين الشباب بالمدينة ليواصلوا ما بدأه شيوخَهم في نشر علومِ القرآن ويُعلموا الأجيالَ الشابة تِلاوَةَ القرآنِ وتجويدَه.

 

الشيخُ أحمد الحجار من مواليد عام 1925، وتُوفي عن عمر يناهزُ الثالثة والتسعين، وقد كُف بصرُه وهو صغير، وتعلمَ القرآنَ وحفظه بمختلف القراءات في سنٍ صغيرة، وبدأت رحلةُ تلاوتِه وتجويدِه للقرآن في الأربعينيات من القرنِ الماضي. وكان يتبعُ مدرسةَ الشيخِ محمود خليل الحصري في تلاوةِ القرآن وتجويده دونَ بهرجة أو زينة أو تقطيعٍ في الآيات أو تقليدِ الآخرين في التجويد ومنافستهم فيه، وهي المدرسةُ الرصينة في التلاوة التي التزم بها طِوَالَ حياتِه. وقد اشتُهر الشيخُ الراحلُ العظيم بترديدِ “السِبْحَة” عقب قراءةِ الرُبْعِ الرئيس من القرآن بعدَ صلاةِ العشاء في كلِ سُرادقِ عزاء طِوَالَ العُقُودِ السبعةِ الماضية، لدرجةِ أننا كنا نقولُ إن الإنسان لا يموتُ إلا إذا قامَ الشيخُ الحجار بترديد “السِبْحة” في ليلةِ عزائه. وإذا كان هناك أكثر من مُتَوَفٍ في المدينة وفي أماكنَ مختلفة، كنا نرى الشيخُ وهو يُهْرَعُ من مكانِه عقب “السِبْحَة” في عَزَاءٍ، ليلحقَ بالعَزَاءِ الثاني ليرددَ “السِبْحَةَ” التي تنزلُ بردًا وسلامًا على المُتَوَفَى وأهلِه والحاضرين في سُرادقِ العَزَاء.

 

كنا نعجبُ ونحن صغارٌ في بداياتِ المرحلةِ الابتدائية من هذا الشيخِ الكفيف الذي يسيرُ في طُرِقَاتِ المدينة ليلًا ونهارًا دونَ رفيق، لم يكن معه إلا عصاهُ يتوكأُ عليها، ورغم ذلك لا يتعثرُ في حجر ولا يخوضُ بقدميهِ في مطرِ الشتاء، وقد آمنا حين كبرنا أن هذا الشيخ الجليل كان يمشي بنور الله الذي يهديه الطريقَ “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” (الشعراء، الآية 62). هداهُ ربَه السبيلَ في الصباحِ والظهيرة والليل والنهار والصيف والشتاء، هداهُ في عتمةِ الليلِ وفي قَيْظِ النهار، وهو يسعى من منزلِه إلى مسجدِ السُلطانِ الأشرف، ذلك المسجدُ الأثري الذي ورثناه من العصرِ المملوكي ليرفعَ الشيخُ الأذانَ في كلِ الأوقات، ويؤمَ الناسَ في الصلاة.

 

في السنواتِ الأخيرة قبل وداعِ الدنيا الفانية، أقعدَ المرضُ الشيخَ في دَارِه، ولم يكن يجري على لسانِه سوى ذكر اللهِ ليلًا ونهارًا.. سبحان الله.. والحمد لله.. ولا إله إلا الله.. والله أكبر.

 

صبيحةُ الجمعة الماضي نزلَ أحد أحفادِه للاطمئنانِ عليه، فلم يستطعْ فتحَ بابِ غرفتِه، فذهبَ وقالَ ذلك لأمِه، فَشَعُرَت أن أجلَ الشيخِ قد دنا وتدلى، وأن الشيخَ لم يشأ أن يدخلَ عليه أحد وهو يستعدُ للقاءِ ربِه، فاستجابَ البابُ لمشيئتِه فانغلقَ دونَ أن يُغْلِقَه، وحينَ نزلَ ابنُه الأوسط للاطمئنانِ عليه انفتحَ البابُ من أول لمسة، ليُدْرِكَ أن السِرَ الإلهي قد صعدَ إلى ربِه، مثلما قُبِضَ الأنبياءُ والأولياءُ والصالحون من قبلِه “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ” (الزمر، الآية 30)، “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” (آل عمران، الآية 144).

 

كانت ليلةُ عَزَاءِ الشيخِ أول من أمس السبت في سُرادقٍ ضخم يسعُ المئات في ميدانِ المحطة بجوارِ مجلسِ مدينةِ الخانكة، كانت ليلةً قرآنية نورانية تَحُفُنَا فيها الملائكة وتُظَلِلُنَا فيها سحائبُ الرحمة، تسابقَ فيها تلامذتُه في قراءةِ القرآن على روحِه الطاهرة، وعلى رأسِهم الشيخ يوسف حلاوة والشيخ خالد محمد حنفي، وألقى كلمةَ التأبين الرئيسة فضيلةُ الشيخ طه سلامة اللبان كبيرُ أئمةِ ومشايخِ مدينة الخانكة بوزارة الأوقاف، وردد “السِبْحَة” على روحِ المُتَوَفَى الشيخُ سيد اللبان (الصغير)، وهنالك تذكرنا جميعًا “السِبْحَة” التي كان يُرَدِدُهَا الشيخُ الحجار طِوَالَ العُقُودِ الماضية، فبكى الشيخُ سيد اللبان والشيخُ طارق البطاوي وبكيتُ وبكى جُلُ الحاضرين الذين طالما سمعوا هذه الكلمات المباركات من فَمِ الشيخِ الحجار الذي لن يجودَ الزمانُ بمثلِهِ أبدًا.

 

إن الشيخَ الحجار كان- كما قالَ الشيخُ طه اللبان الذي تربى وتتلمذَ على يَدَيْه- يحملُ مقامَ النُبُوَةِ بين جَنْبَيْه وإن كان لا يُوحى إليه، ولِمَ لا وهو الحافظُ العالِمُ العامِلُ بكتابِ الله، وأنجبَ ثلاثةَ أولاد أدبَهم فأحسنَ أدبَهُم وعَلَمَهُم فأحسنَ تعليمَهُم، الأولُ طبيبٌ يداوي جِرَاحَ الناسِ وآلامَهُم والثاني معلمٌ فذٌ ومربٍ فاضل والثالث عالمٌ من عُلَمِاءِ الأزهر الشَريف. لم نعرفْ عن الرجلٍ سوءًا ولم يكن ينطق يومُا بسوء، بل إنه كان محبًا للجميع، وكنا نتلهفُ ونحنُ صِغَارٌ على أن نُمْسِكَ بيده لكي نسيرَ معه إلى وجهتِه في طرقاتِ المدينة، فكان يحرصُ على أن يعرفَ مَن نحنُ وما أسماءَنا ومَن آباؤنا ويُرْسِلُ لهم السلام، فقد كنا جميعًا أولادَه، وكلُ الناسِ إخوته، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، يكفي أن يَحْضُرَ العزاءَ ممثلٌ عن رجالِ الدينِ المسيحي، لنعرفَ أن هذا الرجل اتفقَ الجميعُ على محبتِه. نقلا عن روزاليوسف

 

إننا جميعًا لا نُصَدِق أن الشيخَ أحمد الحجار قد مات، بل كُلُنَا يعلمُ عِلْمَ اليقين أن الشيخَ قد ذهبَ للقاءِ رَبِه.