“عودة الروح” والثورة

"عودة الروح" والثورة

بقلم : د. رفعت سيد أحمد

فلنختلف اليوم «2018» ما شاء لنا الاختلاف مع الوضع الحالى فى مصر، فهذا حق لا مراء فيه.. ولكن ما لا يجوز الاختلاف أو الخلاف عليه فى ظنى «وليس كل الظن إثمًا» هو أن الثورة التى قام على أساسها هذا النظام، كانت ضرورة وطنية وتاريخية بعد أن أخذنا حكم الإخوان إلى طريق مسدود يؤدى فقط، إما إلى «المسار السورى» أو «المسار الليبى» بدواعشهم وإرهاب وتآمر العالم على أنظمتهم الوطنية.

 

لولا ثورة 30 يونيو لكنا حتمًا فى أحد هذين المسارين، بغض النظر عن الموقف الآن من السياسات الحالية.. ولا ينبغى الخلط المتعمد والجاهل بين حدث تاريخى أنقذ مصر، (وهو هنا ثورة الجيش والشعب فى 30/6/2013)، وبين اختلاف أو خلاف سياسى مع قرارات ومواقف وسياسات.

 

لقد كانت مصر على شفا الضياع كدولة قبل 30 يونيو 2011.. ولم يكن خروج الشعب بملايينه فى الميادين وقتها إلا تعبيرًا فطريًا عن ضرورة الدفاع عن الدولة فى مواجهة جماعات لا ترى فى الوطن «إلا حفنة تراب قذر» كما قال يومها كبيرهم!

وفى أجواء الذكرى دعونا نعيد قراءة الحدث من زاوية جديدة، زاوية طبيعة الشخصية المصرية التى لم يدركها «الإخوان» والجماعات المتأسلمة بعد ثورة يناير2011، التى حاولوا اختطافها، فجاءت 30 يونيو 2013، لتعيد التأكيد عليها.. وهى الطبيعة الثورية الكامنة فى شخصية المصريين.. وهو ما لم يفهمه الكثيرون ومنهم الإخوان.

 

فى أجواء الحدث وذكراه الخامسة دعونا نتأمل مجددًا وبعيون معاصرة، أهم صفحات الرواية الخالدة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، تلك الرواية التى استند إليها عبدالناصر – كما قال لاحقًا – فى ثورته، وقيل إنه تأثر جدًا ببطلها، ونحسبه – وهو ما لم يقله – قد تأثر بالفقرات التى سنوردها فى هذه القراءة الجديدة.. وهى الفقرات التى على كل سياسى فى مصر ونخبتها أن يعيدوا فهمها؛ لأنها ببساطة تكشف معدن الشخصية المصرية، وخطورتها حين تثور.

 

فى هذا السياق لم أجد أجمل مما كتبه توفيق الحكيم فى رائعته «عودة الروح» والتى صدرت طبعتها الأولى فى الثلاثينيات، ليعبر بها عن تميز الشخصية المصرية و«حضاريتها» وأنها تختزن بداخلها عوامل الثورة والنهضة، مهما كان مظهرها الخارجى فقيرًا أو بائسًا.

 

ترى ماذا قال الحكيم؟!، لقد دار حوار بين مفتش الرى الإنجليزى وبين عالم الآثار الفرنسى بعد وليمة طعام التهماها لدى والد «محسن» بطل الرواية وأحد أثرياء الريف المصرى وقتها، وبعد انتهاء الوليمة دار بينهما حوار عن الفلاح المصرى البائس الذى يرونه أمام أعينهما يتحرك فى حياة بائسة وبدائية شديدة الفقر، فماذا قالا:

 

– يسأل «الفرنسى» الإنجليزى الذى هب للدخول إلى الحجرة لينام: إلى أين؟ ألا يؤثر فيك هذا النسيم الرقيق يا «مستر بلاك»؟.. فالتفت إليه الإنجليزى، ثم التفت إلى النافذة، كأنما يبحث عن هذا النسيم يريد أن يراه بعينه، وكان الفلاحون عندئذ قد بدأوا ينهضون زرافات ووحدانًا، كل يحمل فأسه أو منجله، كى يستأنفوا أعمالهم بالحقول!.. فقال الإنجليزى لرفيقه: لا أرى إلا أسرابًا من ذوى الجلاليب الزرقاء!.. فنظر الفرنسى إلى الفلاحين ثم قال معجبًا: ما أجمل ذوقهم.. لون لباسهم كلون سمائهم.. فارتسمت على فم الإنجليزى ابتسامة تهكم، وقال: إنك تبالغ إذ تحسب لهؤلاء الجهلاء ذوقًا! فأجاب الأثرى الفرنسى بإيمان وقوة: جهلاء.. إن هؤلاء الجهلاء يا «مستر بلاك» أعلم منا !.

فضحك الإنجليزى وقال أيضًا فى تهكم: لأنهم ينامون مع البهائم فى حجرة واحدة!.

 

فأجاب الفرنسى بجد : نعم وبالأخص، لأنهم ينامون مع البهائم فى قاعة واحدة. فالتفت إليه «مستر بلاك» محدقًا مبتسمًا: «إنها نكتة ظريفة يا  مسيو فوكيه»!..

 

فأجاب الفرنسى: بل حقيقة تجهلها أوروبا للأسف.. نعم إن هذا الشعب الذى تحسبه جاهلًا ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله! إن الحكمة العليا فى دمه ولا يعلم!.. والقوة فى نفسه ولا يعلم!.. هذا شعب قديم: جىء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدرى!!.

 

نعم هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظات حرجة، تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجارب. فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته.. هذا ما يفسر لنا – نحن الأوروبيين – تلك اللحظات من التاريخ، التى نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة فى قليل من الوقت!.. وتأتى بأعمال عجاب فى طرفة عين!

 

 

«تأملوا هذا الكلام منذ العشرينيات والثلاثينيات.. قاله توفيق الحكيم نقلًا عن مستشرق فرنسى داخل روايته الخالدة عودة الروح.. قاله وكأنه يعيش لحظة ثورتى يناير 2011 و30/6/2013» ثورة الشعب الذى يختزن الحضارة والتاريخ فى قلبه!!».

ثم يقول الفرنسى مخاطبًا الإنجليزى: لا تظن يا مستر بلاك أن هذه الآلاف من السنين، التى هى ماضى مصر قد انطوت كالحلم ولم تترك أثرا فى هؤلاء الأحفاد.. أين إذن قانون الوراثة الذى يصدق حتى على الجماد؟.. ولئن كانت الأرض والجبال إن هى إلا وراثة طبقة، عن طبقة، فلماذا لا يكون ذلك فى الشعوب القديمة التى لم تتحرك من أرضها، ولم يتغير شىء من جوها أو طبيعتها؟.

 

نعم إن أوروبا سبقت مصر اليوم، ولكن بماذا؟.. بذلك العلم المكتسب فقط، الذى كانت تعتبره الشعوب القديمة عرضًا لا جوهرًا ودلالة سطحية على كنز دفين، لا أنه هو فى ذاته كل شيء !.

 

إن كل ما فعلناه – نحن الأوربيين الحديثى النشأة – هو أننا سرقنا من تلك الشعوب القديمة هذا الرمز السطحى، دون الكنز الدفين؛ لذلك جىء بأوروبى وافتح قلبه تجده خاليًا خاويًا!

 

 

الأوروبى إنما يعيش بما يلقن ويعلم فى صغره وحياته؛ لأنه ليس له تراث ولا ماض يسعفه غير أن يعلم!.. احرم الأوروبى من المدرسة يصبح أجهل من الجهل!

 

 

قوة أوروبا الوحيدة هى فى العقل!.. تلك الآلة المحدودة التى يجب أن نملأها نحن بإرادتنا. أما قوة «مصر» ففى القلب الذى لا قاع له.. ولهذا كان المصريون القدماء لا يملكون فى لغتهم القديمة لفظة يميزون بها بين العقل والقلب.. العقل والقلب عندهم كان يعبر عنهما بكلمة واحدة هى: القلب!.».

 

 

وسكت الأثريّ الفرنسى برهة ونظر إلى وجه المستر بلاك «الإنجليزى» ليتعرف على أثر ما قال فيه، فوجد ملامح جامدة وشفتين تنفرجان عن ريبة وشك!

 

فاستطرد الفرنسى يقول:

 

– نعم يامستر بلاك!.. هؤلاء الفلاحون هم ذوق.. وذوق جميل!.. وهم لو سألتهم عن كلمة ذوق لجهلوا معناها… أما نحن فنعرف جيدًا معنى كلمة ذوق، ولكن ثق أن فينا عددًا كبيرًا ليس له ذوق!.. نعم هذا هو الفرق الوحيد بيننا وبينهم: إنهم لا يعلمون ما عندهم من كنوز!

عندئذ هم «الإنجليزى» بالنهوض وهو يقول متهكمًا: إنكم معشر الفرنسيين تضحون بالحقائق فى سبيل الكلام!

 

فأجلسه «مسيو فوكيه» بيده، وقال محتدًا:

 

 

– الحقائق؟.. الحقائق معى يا مستر بلاك.. إنك تعرض بضعف

 

 

 

هذا الشعب الآن.. أليس كذلك؟.

 

 

– وأيضًا أخلاق أهله لا تعجبنى.. أخلاق أهله؟..

 

– نعم..

 

 

ثق يا « مستر بلاك » أن الفاسد من هذه الأخلاق ليس من مصر، بل أدخلته عليها أمم أخرى كالبدو أو الأتراك مثلًا، ومع ذلك فلا يؤثر هذا فى الجوهر الموجود دائمًا..

 

 

– قل لى ما هو هذا الجوهر؟..

 

 

– إنك ترتاب فى قولى!.. ولكنى أكتفى بأن أقول لك احترس!.. احترسوا من هذا الشعب، فهو يخفى قوة نفسية هائلة!.

 

 

 

يواصل توفيق الحكيم فى رائعته «عودة الروح» الحوار بين مفتش الرى الإنجليزى وعالم الآثار الفرنسى، يواصله وكأنه كتبه اليوم فى أحداث ثورتى 25 يناير و30يونيو2013، حيث يجدد فيه وبأسلوب أدبى عبقرى أبرز ملامح الشخصية المصرية، التى تختزن بداخلها «الثورة» بكل معانيها ومعالمها كما تبدت فى ثورات «1952» و«25 يناير 2011» و«30 يونيو 2013»، يقول الحكيم: واستوى بعد قليل العالم الفرنسى فى كرسيه، وأشعل لفافة أخرى، وأرسل نفخة من الدخان فى الهواء، ثم قال:

 

 

– أرى أن قولى لم يفحمك يا « مستر بلاك»؟.. فالتفت إليه « المفتش الإنجليزى، بأدب، وقال: أعترف بذلك!.

 

 

فسكت «الفرنسى» هنيهة ثم قال:

 

 

– نعم.. لنا العذر ألا نفهم هذا؟ يقصد «الشخصية المصرية من خلال الفلاح المصرى وقتذاك».. إن لغتنا نحن الأوروبيين  لغة المحسوسات.. إننا لا نستطيع أن نتصور تلك العواطف التى كانت تجعل من هذا الشعب المصرى كله فردًا واحدًا، يستطيع أن يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عامًا ليبنى الهرم، وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد، راض بالألم فى سبيل المعبود. إنى لموقن أن تلك الآلاف المؤلفة التى شيدت الأهرام، ما كانت تساق كرهًا كما يزعم «هيرودوت» الإغريقى عن حماقة وجهل.. وإنما كانت تسير إلى العمل زرافات وهى تنشد نشيد «المعبود»، كما يفعل أحفادهم يوم جنى المحصول. نعم كانت أجسادهم تدمى، ولكن ذلك كان يشعرهم بلذة خفية، لذة الاشتراك فى الألم من أجل سبب واحد!

 

 

وكانوا ينظرون إلى الدماء تقطر من أبدانهم فى سرور لا يقل عن سرورهم برؤية الخمور القانية تقدم قرابين إلى المعبود!.. هذه العاطفة عاطفة السرور بالألم جماعة.. عاطفة الصبر الجميل، والاحتمال الباسم للأهوال من أجل سبب واحد مشترك.. عاطفة الإيمان بالمعبود والتضحية، والاتحاد فى الألم بغير شكوى ولا أنين.. هذه هى قوتهم!.

 

 

ثم ينتقل توفيق الحكيم فى رائعته «عودة الروح» ليقول على لسان عالم الآثار الفرنسى متحدثًا إلى مفتش الرى الإنجليزى أيضًا: هل رأيت فى بلد آخر أشقى من هؤلاء المساكين؟!.. أنت مفتش رى، وتعلم جيدًا يا «مستر بلاك» أوجدت أفقر من هذا الفلاح المصرى؟ ولا أهول عملًا؟.. إنى أعلم ذلك أنا أيضًا، فقد اشتغلت بالحفر عن الآثار فى قرى الصعيد، وخالطت بعض الفلاحين وعلمت كل شىء.. عمل ليل نهار فى الشمس المحرقة والبرد القارس وكسرة من خبز الأذرة، وقطعة من الجبن مع بعض الأعشاب من السريس وغيره مما ينبت وحده.. تضحية مستمرة صبر دائم، ومع ذلك فها هم أولاء يغنون!.. اسمع برهة يا « مستر بلاك».

 

 

وسكت «الأثرى الفرنسى» هنيهة، كأنما يستفسر روح هذه الأغنية التى تأتى مع النسيم، ثم استطرد يقول:

 

 

– أتسمع هذه الأصوات المجتمعة الخارجة من قلوب عدة؟. ألا تخالها خارجة من قلب واحد؟ إنى أؤكد أن هؤلاء القوم يحسون لذة فى هذا الكدح المشترك، هذا أيضًا هو الفرق بيننا وبينهم، إن اجتمع عمالنا على الألم أحسوا جراثيم الثورة والعصيان وعدم الرضا بما هم فيه، وإن اجتمع فلاحوهم على الألم أحسوا السرور الخفى واللذة بالاتحاد فى الألم، ما أعجبهم شعبًا يصنع الغد!!..

أسند المفتش الإنجليزى يده إلى جبينه لحظة كالمتأمل، ثم قال:

 

 

– ما كنت أحسبك جادًا، وأنت تفهمنى أن بين مصر اليوم ومصر بالأمس علاقة!.. فأجاب العالم الفرنسى: وأى علاقة؟!.. قلت وأقول أيضًا: إن الجوهر باق دائمًا!.. إن هؤلاء الفلاحين الذين يغنون من قلب واحد، المتعددين الذين تجمعهم العاطفة والإيمان فى واحد، لا يزالون يعون بقلوبهم، ولا يعلمون تلك العبارة التى كان أجدادهم يندبون بها موتاهم فى الجنائز : «عندما يصير الوقت خلودًا، سنراك من جديد، لأنك صائر إلى هناك، حيث الكل فى واحد!

 

وانتهى أجمل مقاطع رائعة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم..كما أصورها.. ولا مزيد من التعليق..لتبدأ بعدها الثورات المصرية المتتالية والجهاد ضد ثالوث « الاستعمار والفقر والتخلف»..من  1952إلى 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013..وسيستمر هذا الشعب العظيم منتجا ومعلما للثورات وللتاريخ الإنسانى.. والله أعلم». نقلا عن روزاليوسف