ملالي إيران وإستراتيجيات المرحلة المقبلة

ملالي إيران وإستراتيجيات المرحلة المقبلة

د.سالم الكتبي
ليس هناك شك في أن القلق والارتباك الشديد يطغى على رؤية نظام الملالي الايراني في هذه الفترة، فما يحدث من حولهم يأتي من خارج صندوق حساباتهم الاستراتيجية التقليدية، التي كانت، ولا تزال، تتمحور حول أفكار بالية تتعلق بتنفيذ مشروع الهيمنة التوسعي الذي بدأ عقب توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة “5+1″، وهو اتفاق ملىء بالثغرات ركز على جانب واحد فقط، وهو البرنامج النووي الايراني، من دون أن يأخذ بالاعتبار بقية المتغيرات والمعطيات التي تضمن تحييد الخطر والتهديدات الايرانية.

ما يحدث الآن يمثل عودة إلى أجواء ما قبل الاتفاق النووي في الشرق الأوسط، ولكن مع وجود عنصر ضاغط على أجواء التفاوض، يتمثل في تمدد النفوذ الايراني في العراق وسوريا، التي يسعى الملالي إلى اعتبارها “رهينة” وورقة تفاوضية مؤثرة عند جلوسهم المرتقب على مائدة التفاوض مع فريق الرئيس الأمريكي جو بايدن أو أي أطراف دولية أخرى.

الحقيقة أن الملالي قد حققوا من خلال استغلال ثغرات الاتفاق النووي مكاسب استراتيجية يصعب إنكارها، فرغم خسائر إيران الفادحة على المستويات الاقتصادية والتجارية والتنموية عقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، فإنهم قاموا باستغلال الاتفاق كمظلة لمشروعهم التوسعي، وتجاهلوا أي أثر للانسحاب الأمريكي المتوقع ـ وقتذاك ـ على المكاسب الاقتصادية الكبرى التي حققوها بفضل رفع العقوبات الموقعة على إيران والتي كان بعضها يعود إلى عام 1979، واكتفوا فقط برؤية مبتسرة استهدفت التمدد والتوسع العسكري والسعي للوصول إلى شواطئ سوريا في الغرب واليمن في الجنوب، ورغم خسائرهم البشرية والمادية الفادحة جراء هذا التوسع غير المدروس، فإنهم يصرون على ادعاءات خاوية تكذبها الضربات الاسرائيلية المتتالية التي تتلقاها الميليشيات الايرانية المتمركزة في سوريا!

وفي ضوء ذلك يمكن القول إن استراتيجية الملالي منذ قيام ثورة الخميني عام 1979 لم تتغير، ويبدو أنها غير قابلة للتغيير في المدى المنظور، وهي استخدام أموال النفط الايراني في نشر العنف وتحقيق شعارات تلك الثورة، والضحية لذلك هي إيران بشبابها وشعبها فضلًا عن الأمن والاستقرار الاقليمي والدولي، فليس لثورة أن تزعم النجاح بعد نحو أربعة عقود رغم أنها لم تفلح في تصدير أي منتج إيراني سوى الطائفية والعنف والقتل والمؤامرات!
وفي ظل هكذا واقع مؤلم، تصبح مهمة إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن في التعامل مع الملالي صعبة للغاية، لأن التاريخ القريب يشير لنا ـ ببساطة ـ إلى تلاعب تكتيك “حائك السجاد” الايراني بالمفاوض الأمريكي خلال حقبة الرئيس السابق باراك أوباما وانهاكه طيلة سنوات تفاوض طويلة وجولات ماراثونية حتى الاضطرار إلى توقيع اتفاق يحمل جينات الفشل، والدرس هنا للإدارة الجديدة أن تتعامل مع الملالي وفقًا للخبرات وليس بناء على التصورات التي تسكن أحيانا رؤوس المفاوضين، فنظام الملالي لن يتحول إلى عنصر استقرار إقليمي سوى من خلال ردع دولي قوي يضع لهذا النظام الحدود والقيود الواجبة على حركته، وبما يضمن حق دول الاقليم في الأمن والسيادة على أراضيها وعدم تدخل هذا النظام البغيض في شؤونها الداخلية.

وإذا كانت بعض التحليلات ترى أن قرارات الرئيس ترامب الأخيرة بشأن إيران، تستهدف عرقلة اندفاع الرئيس المنتخب بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، فإنني اعتقد أن هذه القرارات تخدم في الحقيقة، ولا تعرقل، إدارة الرئيس بايدن لأن وجود نظام الملالي في بيئة تفاوضية مريحة نسبيًا يعزز موقفهم ويدفعهم إلى التشدد في مطالبهم، ولكن تصعيد الضغوط، أيًا كانت، سيسهم دون شك في إجبار الملالي على الخضوع للاملاءات الأمريكية، شريطة ألا تندفع الإدارة الأمريكية الجديدة للحصول على مكسب سياسي قصير الأمد سوءا بالعودة للاتفاق النووي دون شرط أو قيد، أو تجاهل مطالب دول مجلس التعاون بأن يكون لها دور حقيقي في أي مفاوضات قادمة بشأن الاتفاق النووي مع إيران.

أخيرًا، لا أحد ينكر أن أحد أهم دروس الماضي القريب في التعامل مع الملالي تتمثل في أن أفضل مخرجات العلاقات الامريكية الايرانية قد تحققت خلال الفترات التي شهدت استشعار الملالي القلق الشديد والخطر على مستقبل نظامهم، وقد حدث ذلك في فترات عدة، منها إبان الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وعقب الرد العسكري الأمريكي على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بقصف معسكرات “القاعدة” وحركة “طالبان” في أفغانستان، حيث أبدى الملالي تعاونًا كبيرًا مع الولايات المتحدة، ورغم ما يقال بأن الغزو الأمريكي للعراق قد أسهم في فتح الباب أمام النفوذ الايراني في هذا البلد العربي الكبير، فإنه يجب الاعتراف بأن ذلك لم يكن يدور في مخيلة الملالي بحيث دفعهم للتعاون، ولكنه جاء كأثر سلبي غير مقصود بفعل سوء إدارة المرحلة التي أعقبت انهيار نظام صدام حسين، والخلاصة هنا أن وضع نظام الملالي تحت الضغط هو السبيل الوحيد للتوصل إلى “صفقة” قابلة للحياة وتلبي تطلعات كل الأطراف في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي.