عن الخديعة الشعبوية.. في الفنون والثقافة

عن الخديعة الشعبوية.. في الفنون والثقافة

د. حسام عطا
تتكرر بشكل ملحوظ صفة الشعبوية في أيامنا هذه، في ظل نمو تلك النزعات الشعبوية في أنحاء متفرقة من جهات الدنيا الأربع. وبشكل واضح تتجلى في عدد من بلاد العالم المتقدم.

والسؤال الآن هل للشعبوية حضورها في الفنون المعاصرة، ولها تأثيرها في الفعاليات الثقافية، وفي مفاهيم الثقافة العامة؟

الشعبوية “populism”، في جوهرها تمثل تيارًا ضد النخب التقليدية في السياسة والإعلام والثقافة، وترى أن مثل تلك الأمور التي تديرها النخب التقليدية لصالحها هي أمور سهلة جداً، والشعبوية تعتمد على تبسيط مخل وسهل للأمور المعقدة. وترى الشعبوية، أن تلك الممارسات السياسية والفكرية، تبدو معقدة وفقاً لمؤامرة صنعتها النخب ليبقى الإنسان العادي بعيداً عن دوائر التأثير والإدارة.

وإن كانت الشعبوية، ظاهرة عابرة في السياسة والإعلام، وتنتهي لصالح المؤسسات المستقرة في الانتخابات وما إلى ذلك، وأثرها وخديعتها سرعان ما تدركهما الجماهير، فإن تراكم الشعبوية في ميدان الفن والثقافة هو التراكم الأكثر امتداداً وعمقاً وتأثيراً، بل وهو الذي يُساهم في ثبات تأثيرها وإمكانية صعودها على المستوى السياسي والإعلامي. لأن الشعبوية في الفن تختلط بمفهوم الجماهيرية، وهي تتلون بألوان زاهية وممتعة.

وتعد الفضائيات المتعددة هي الوعاء الأكبر، والعارض الأساسي لتلك الفنون الشعبوية والثقافة الشعبوية، وذلك في معظمها، إلا القليل منها بالطبع، ولكن ارتباط تلك العروض الفضائية على الشاشات اللانهائية بالإعلانات ومواردها المالية، هو ما يدفع بتلك العروض الشعبوية للانتشار تحت عنوان خادع، وهو الفنون الجماهيرية.

وفي بعض الأحيان يطلقون عليها الفنون الشعبية، خاصة في مجالي الغناء والاستعراض، وهي ليست كذلك، لأن الفن الشعبي هو التعبير عن تاريخ إبداع وتفكير وقيم وجماليات الجماعات البشرية والشعوب الإنسانية، ولذلك فالفن الشعبي من هذه الفنون الشعبوية تجارية الطابع القائمة على عناصر لا علاقة لها بالفنون الشعبية بريء تمامًا، وإن حاولت التشبه به، وإعادة صياغته بطريقة تبدو طازجة وقابلة للتداول السريع.

وجوهر هذه العروض الفنية الشعبوية كونها مسلية، وتبدو جديدة ودافعة للبهجة سهلة للغاية في صنعها وتلقيها، وهي إنتاجات يتم استهلاكها سريعاً، تأخذ هيئة انتشارية ذات موجات متتابعة، ثم تذهب إلى عالم النسيان.

جدير بالذكر، أن الشعبوية الفنية والثقافية ذات طابع عالمي واسع الانتشار، خاصة مع انتشار التكنولوجيا ومواقع بث الفنون عبر الشبكة الدولية للمعلومات. بعض هذه المواقع يصنع صياغات مبتسرة ومضللة لسياسات بعينها ولاتجاهات ظالمة ولأفكار شعبوية كاذبة في القضايا السياسية الدولية محل النزاع.

ولأن الجمال والإبداع ومحاولة طرح الأسئلة حول الحقيقة، سواء في القضايا الإنسانية أو القضايا العامة، تحتاج مجهودًا وعملًا مرهقًا منتظمًا، وهي بطبيعة اختياراتها الجمالية والفكرية تبدو مركبة، ولا تخاطب حاجات المتلقي للتسلية العابرة، وإنما تهدف للبقاء في الوجدان وتصنع الصور الذهنية التي يستهدفها الفنان المبدع لصنع الأعراف الاجتماعية المختلفة، فهي لا تحقق في معظمها ذات الانتشار الكثيف للفنون الشعبوية.

بقى أيضًا مسألة أخرى أتاحتها التكنولوجيا المعاصرة، ألا وهي إمكانية إنتاج الفنون عبر الوسائط المتعددة، وسهولة نشرها.

يسر شديد في صناعة الموسيقى والتصوير وفنون أخرى أدى إلى انتقال أعداد كبيرة من الهواة إلى عالم الشهرة عبر التطبيقات المتعددة، بل وحصدوا أموالًا كبيرة من عوائد المشاهدات الكبيرة، وهو ما أصبح الهدف الأول لتحقيق الربح والشهرة معًا.

مما يحقق هدف الشعبويين الجدد في الفن والثقافة، ألا وهو حصار أهل المهن المختصين في هوامش ضيقة تتلقى الاعتراف والثناء النقدي، وربما تحصد بعض الجوائز، ولكنها وهو أمر أصبح ملحوظًا جدًا في سياق عالمي متصل ببعضه البعض، باتت إنتاجات نادرة للغاية ويتم وصفها بالنخبوية، رغم جماهيريتها، وكأن النخب التقليدية المختصة المحترفة المهنية قد أصبحت عيبًا ونوعًا من الإقصاء الخبيث من المشهد العام.

بينما الأعمال الفنية الخالدة بمراجعة تاريخ الفنون، هي أعمال جماهيرية على جمالها وانحيازها لما ينفع الإنسان.

وهكذا فإن استبدال الجماهيري بالشعبوي في الفنون والثقافة ظاهرة شديدة الخطورة، لأنها في جوهرها تستبعد النخب المختصة والمهنيين لصالح الشعبوية الثقافية الجديدة التي يتزعمها زعماء جدد يعتبرون السهولة والبدائية المعاصرة والركاكة ميزات أساسية، بينما التركيب الإبداعي والممارسات المهنية، يمكن ممارسة طردها من المشهد العام بحجة النخبوية، والنخبوية في الثقافة والفنون مفهوم آخر تلازم وتقاطع مع الفنون الجماهيرية في تاريخها، وغالبًا ما تكون محاولات ذات طابع تجريبي.

إن هذا الخلط والاستبدال والاتهام من حيث مصدر القيمة، هو شعار الشعبوية المعاصرة في الثقافة والفنون.

ولذلك فالمهني المختص المبدع، المنتمى للنخب التقليدية بطبيعة دوره المهني، يجب أن يدرك جيدًا ذلك الفخ، ويبقى منتظمًا في عمله، لأن الشعبوية تذهب مع الريح، وما ينفع الإنسان يبقى في الذاكرة.