«كورونا» ومستقبل العولمة وسياسات الحمائية

«كورونا» ومستقبل العولمة وسياسات الحمائية

د.سالم الكتبي
لا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ عن اكتشاف العلماء في دول مختلفة لمصادر تهديد صحية جديدة للبشرية، وبالأمس قال علماء في الصين إنهم حددوا سلالة جديدة من فيروس الإنفلونزا، لافتين إلى إمكانية تحوله إلى جائحة عالمية، وأوضح العلماء في دراسة أن الفيروس المسمى “G4 EA H1N1” ينتقل من الخنازير إلى الإنسان، وأن هذا الفيروس هو سلالة جديدة ليس للبشر مناعة ضدها، ما يستوجب مراقبته بعناية. ونقلت وسائل إعلام بريطانية عن البروفيسور كين تشو شانع، قوله “حاليا نحن مشغولون بفيروس كورونا المستجد، ولكن لا يجب أن نغفل عن الفيروسات الجديدة التي يمكنها أن تكون خطيرة”.

هناك أيضًا مخاوف برزت في تصريحات لبعض الخبراء قالوا فيها إن سلالة من سلالات فيروس كورونا تحورت لتكون معدية أكثر بنحو عشرة أضعاف، ويقولون إن انتشار هذه النسخة المتحورة هي السبب في انتشار الفيروس بسرعة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.

الأمر لا يقتصر على ذلك، بل هناك تحذير لافت صادر عن الدكتور تيدروس أدهانوم غبريوس مدير منظمة الصحة العالمية قال فيه “الأسوأ لم يأت بعد” في تفشي وباء “كورونا”، لافتًا إلى أن الفيروس سيصيب عددًا أكبر من الناس إن لم تعتمد الحكومات السياسات المناسبة.

الفيروس الذي أصاب أكثر من عشرة ملايين منذ بداية انتشاره في الصين بداية العام الجاري، وراح ضحيته أكثر من 500 ألف شخص حتى الآن، لا يزال في بؤرة الخطر العالمي، و”الحقيقة الصعبة هي أننا لسنا حتى قريبين من النهاية” كما قال رئيس منظمة الصحة العالمية، محذرًا من تسارع وتيرة انتشار الخطر عالميًا رغم رفع قيود الاغلاق عالميًا واعتماد سياسة التعايش مع الوباء، مايعكس حجم الأخطار والتهديدات التي لا تزال ماثلة رغم توجه العالم بالفعل نحو “التعايش” لتفادي ماهو أسوأ اقتصاديًا واجتماعيًا.

العالم الذي يفترض أن ” يترقب الأسوأ” بحسب منظمة الصحة العالمية غاب عنه التضامن في مواجهة هذا الوباء، بل انهارت كل مقولات التعاون المشترك وتبادل المنافع والمصالح والخبرات وغير ذلك من الشعارات والقوالب الجامدة التي تلازمت مع عصر العولمة، والأغرب أن من سقط في هذا الاختبار هو الحكومات وليس الشعوب، التي استعانت بوسائل العولمة من تكنولوجيا اتصالات ووسائل تواصل اجتماعي وغيرها في تبادل الخبرات والمعارف والاستقواء على الخطر والتهديد بثقافة التعايش الشعبية للتغلب على اجواء العزلة والاحباط.

العالم يدفع أثمانًا عالية للانقسامات والخلافات وتباينات المصالح في ملفات وقضايا دولية عدة، ولكن يبقى غياب التضامن العالمي الجاد في مواجهة الأخطار الصحية الآنية والمحتملة أكبر تحد للبشرية جميعها، فالمسألة هنا تفوق النقاشات والأحاديث الدائرة بين النخب حول مستقبل العولمة وغير ذلك، حيث اتضح أن هذه المفاهيم والمصطلحات لم تتجذر بعد في الوعي الجمعي العالمي، والتصقت فقط بالتعاملات الاقتصادية والتجارية وغاب عنها تمامًا الحس الانساني والاحساس بالمسؤولية المشتركة عن الأمن الجماعي العالمي الذي يمثل الأمن الصحي أحد أهم جوانبه وركائزه.

الإشكالية أن السياسات الحمائية التي يعتقد البعض أنها تحول دون انتقال أي تهديد صحي عابر للجغرافيا، تمثل تهديدًا للاقتصادات والشعوب بدرجة أخطر من تهديد الفيروسات والأمراض، فالعالم لم يستوعب “درس كورورنا” حتى الآن بدرجة كافية، و لا يزال البعض يرى في إغلاق الحدود والأجواء حماية من التهديدات العابرة، والأحاديث السياسية المطولة خلال القمم والاجتماعات الافتراضية التي عقدت الأشهر الماضية لم تزل بعيدة عن ملامسة الواقع في ظل التنافس العالمي الحاد حول اكتشاف اللقاح المناسب للفيروس فضلًا عن الممارسات الانانية الفاضحة التي أظهرتها بعض الدول خلال ذروة الأزمة وقرصنة السلطات في بعض الدول على شحنات أدوية ومعدات صحية متجهة إلى دول وشعوب أخرى في انكشاف مخز لكل القيم والمبادىء التي طالما رددها العالم عبر منابره ومنصاته الجماعية كافة!

صحيح أن مقولة القرية الكونية الواحدة لم تصمد في مواجهة خطر تفشي الوباء، على الأقل في شقها الأخلاقي والانساني، ولكن الواقع يقول أن الاستسلام لدعاة الحمائية والانعزالية والمتطرفين القوميين دعاة الانغلاق سيكون خسارة فادحة للبشرية جميعًا، وعلينا جميعًا أن ندرك أن ماحدث من خلافات وانقسامات كان انعكاسًا لضعف آليات التعاون الدولي المؤسسية، فقد ثبت أن المنظمات الدولية القائمة بحاجة ملحة إلى إعادة هيكلة وتحديد دقيق للأدوار والمهام وأدوات التنفيذ والمحاسبة وتوزيع المسؤوليات على الدول الأعضاء. وقد ثبت للجميع أن المنظمات الدولية لم تكن تأخذ في حسبانها سيناريوهات أزمات كهذه، وهو ما يعكس ضعف في الخيال وعدم وعي بطبيعة التهديدات والأخطار التي تواجه البشرية من جانب منظمات يفترض فيها أنه تكون على إدراك تام ودقيق لهذه التهديدات، ومن ثم فإن ما يتوقع هو مراجعة لكل السياسات والمنظومات وليس نهاية للعولمة، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عالمنا، ويجب ألا ننسى أن تفاقم معاناة شعوب العالم في مواجهة وباء كورونا لم يكن بسبب العولمة ولا التعاون الدولي بل بسبب غياب هذا التعاون وضعف الشق الانساني والاخلاقي في سياسات العولمة.