فقه: “فتبينوا.. الخصوصية المصرية”

الدكتور ـ شوقى علام :
«الجغرافيا تاريخ متحرك والتاريخ جغرافيا ساكنه» هكذا عبّر الكاتب المصرى الكبير الدكتور جمال حمدان.

كلّ بُقعة من الكرة الأرضية لها خصائص ومزايا تفصلها عن غيرها، إلا أنّها فى مصر اتخذت طابعًا عميقًا وأصيلا متجذّرًا فى التاريخ، عبقريًّا من جهة الجغرافيا المكانية، كلّ هذا انعكس على «شخصية مصر».

هذه البُقعة المباركة من الكرة الأرضيّة، خصّها الله سبحانه بخصائص جغرافيّة لا تُخطؤها عين الناظر، وانعكست جُغرافيّتها على مسار حركة التاريخ، فامتزجت مع غيرها من الحضارات، وأضحت لها حضارة وخصوصيّة مُستقلّة منذ القدم.

فمن هذه الخصوصيّات التى اختصّت مصر بها، كونها المكان الوحيد الذى تجلّى فيه رب العزّة سبحانه وتعالى للبشر، والتجلّى معناه: فيضان اللطف الإلهى، وظهور أنوار الربوبية التى هى أسرار المعانى الأزلية، حين طلب موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى، فتجلّى ربنا سبحانه بأنوار قدسه على البقعة المباركة من أرض سيناء فى جبل الطور، فهذه خصيصة لم تكن لأمة من الأمم ولا لأرض سوى أرض مصر.

إضافة إلى أنّ غالب أنبياء الله سبحانه وتعالى مرُّوا بمصر وخرجوا منها لغيرها، كأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وزوجته هاجر أم العرب، وموسى عليه السلام، وعيسى عليه السلام.. وغيرهم من الأنبياء، فكأنّ الله سبحانه وتعالى اختص هذه الأرض بنور الإيمان، وجعلها مهدًا لنشر تعاليم الهداية لباقى البُقع والأمم.

وجاءت النصوص فى الإسلام لتؤكد هذا المعنى بجلاء، ففى سياق الكلام عن خصوصية الأمن والأمان، قال الله تعالى: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» «يوسف: 99»، وفى سياق الكلام عن خصوصية الخيرات التى يحتاجها الإنسان لقوام معيشته، قال تعالى: «اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ» «البقرة: 61»، وفى سياق خصوصية الكَنَف والمأوى، قال تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا» «يونس: 87»، وفى سياق خصوصيّة التفاخر بالموارد الطبيعيّة، قال تعالى – على لسان فرعون: «يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ» «الزخرف: 51».

وأخذت مصر الحظ الأوفى من توصيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، منها: ما روى عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: حدثنى عمر رضى الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدى فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأهليهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة».

وعن عمرو بن الحمق رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستكون فتنة أسلم الناس فيها – أو قال: لخير الناس فيها- الجندُ الغربىّ». يقول راو الحديث، «فلذلك قدمت مصر».. إلى غير ذلك من النصوص التى تؤكد الخصوصيّة التى اختصّت بها مصر فى لسان الشرع الشريف.

ومن الخصوصيّة الاستقرائية التى يمكن الحديث عنها فى ذلك السياق أنّ مصر تُعرف عند الأمم الأخرى بـ«مهد الحضارات»، وهذا المعنى بالاستقراء نجده مُطّردًا، فلو أخذنا فكرة استيعاب الثقافات التى تجلّت بوضوح فى مصر عبر تاريخها لوجدنا أمثلة مثل وضح النهار.

فمثلًا: لا يستطيع منكر أن يُنكر أن مصر حافظت على هُويّتها الذاتيّة ومقوماتها الاجتماعية حتى فى ظلّ الاستعمار الذى أثّر فى الأمم والشعوب التى دخلها خاصّة تغيير الهُويّة، لكن ذلك لم يحدث فى مصر. ولا يستطيع مُنكر أن يُنكر استيعاب مصر للجاليات المختلفة حين حدث لهم اضطهاد فى بُلدانهم، ولا يستطيع مُنكر أن يُنكر التعايش السلمى على أرض مصر بين مُسلميها ومسيحييها.

فالخصوصيّة التى خصّ الله بها مصر واضحة جليّة، لكنها تستدعى عين بصيرة لتتكشّف لها الخصائص التى ربما تحجبها عن العين الشائعات المُغرضة، والأكاذيب المُلفّقة.