في أسباب الاحتقان الطائفي ومقترحات للتعامل معه

بقلم ـ زياد بهاء الدين

 

لا أملك حيال جريمة «أبو قرقاص» إلا أن أضم صوتي إلى الأصوات التي تطالب بتطبيق القانون بعدل وحسم، وتقديم الجناة إلى العدالة، ومحاسبة المسئولين عن هذا التقاعس المشين، والابتعاد عن أسلوب الصلح العرفي الذي يأتي على حساب الضحية.

 

ولكن إن كانت هذه الجريمة قد أثارت لدى الرأي العام مشاعر استنكار وغضب شديدين بسبب شدة قبحها وشذوذها، فإنها للأسف الشديد ليست منبتة الصلة بالواقع الاجتماعي، بل تعبير عن تصاعد التعصب والطائفية والاحتقان في المجتمع، على نحو يلزم معه فهم الأصول والأسباب، لكي يمكن التعامل مع هذا الوضع الخطير بشكل سليم.

 

وتقديري أن فهم الإطار لأشمل لهذا التعصب والاحتقان يكون بالنظر إلى أن الدولة قد وجهت طاقاتها ومواردها لمحاربة الإرهاب والعنف باستخدام الأدوات الأمنية فقط، فإنها في ذات الوقت قد كبلت الآليات الفكرية والثقافية والأهلية التي تحارب الفكر المتعصب وثقافة الطائفية والعنف والكراهية، وحرمت المجتمع من التفاعل السياسي الذي يقوم بدور شديد الأهمية في تأصيل وترسيخ التعدد والحوار ومحاربة التطرف بكل أشكاله. لذلك فإن كان فرض الأمن وتطبيق القانون وملاحقة المجرمين مطالب ضرورية وليست محلا للمساومة، فإنها ليست نهاية المطاف، بل يجب أن يصاحبها اعتراف بحقيقة التعصب والاحتقان السائدين في المجتمع، واستعداد للتعامل مع الأسباب التي تؤجج هذا التوتر وتهيئ له المناخ الخصب للنمو.

 

في هذا الإطار يجب العمل فورا على إصدار قانون لمنع التمييز بكل أشكاله، وبما يحقق المواطنة الكاملة لكل أفراد الشعب المصري، رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين، فقراء وأثرياء، شبابا وكهولا. والمساواة لا تكون كاملة إلا إن كانت في كل الحقوق والواجبات، في فرص وظروف العمل، وفى تقلد المناصب العامة، وفى الخدمات التي تقدمها الدولة، وفى حرية العقيدة والعبادة. كما يلزم أن يتضمن هذا القانون عقوبات رادعة لكل من يمارس التمييز، ومن يسكت عنه، أو يحرض على التفرقة بين المواطنين.

 

ومن جهة أخرى فإن علينا إدراك أن الرادع الحقيقي للتعصب والعنف ليس الأمن وقانون العقوبات وحدهما، بل مناخ الحرية والتعدد. مهما حاولت الدولة أن تعتمد على الأمن لمجابهة الطائفية والعنف، فلن يمكنها أن تحرس كل شارع وكل كنيسة وكل مسجد، وأن تحيط بقواتها كل جامعة ومصنع وميدان. ولذلك فإن تقييد حرية التعبير، ورفض التعدد في المجتمع، وحبس أصحاب الأصوات المعارضة، وقبول استمرار العمل بقوانين تدفع بالشباب والأطفال إلى السجون لمجرد التعبير عن الرأي، وتسكت المفكرين والكتاب، إلى كل هذا يصب في مصلحة التعصب والانغلاق، ويحرم المجتمع من التفاعل الصحي بين التيارات المختلفة، ويشجع على نمو الأفكار المريضة والمتطرفة التي لا تجد الفكر المستنير والمتحرر الذي يقابلها ويتصدى لها.

 

ويلزم كذلك إعادة الاعتبار للدستور والقانون والعدالة بشكل عملي وحقيقي وليس بمجرد ترديد عبارات الاحترام والتبجيل. فلا شك أن وراء الانفلات الذي عبرت عنه جريمة «أبو قرقاص» الشعور السائد في المجتمع بعدم أهمية الدستور، وإمكان التغاضي عن إحكامه، واستمرار العمل بقوانين مخالفة له، وبوجه عام هناك تعارض بين التطبيق الكامل للقانون والعدالة وبين متطلبات حماية الأمن القومي وتحقيق الاستقرار. هذا التراخي في تطبيق القانون واحترام الحقوق الدستورية، يفتح الباب للتجاوزات والتنازلات ثم اللجوء إلى المصالحات العرفية الجائرة بوصفها أداة لتحقيق الهدوء والاستقرار.

 

بالإضافة إلى ما سبق فلابد من إطلاق المجال لنشاط المجتمع المدني القادر على تفعيل الحوار بين الشباب، والتعاون في مواجهة متطلبات الحياة اليومية، والتقارب بين الناس من مختلف الظروف والثقافات، وعلى وضع آليات للإنذار المبكر والتدخل قبل انفجار العنف والتعصب. هذا الدور الوقائي للجمعيات الأهلية والمجتمع المدني عموما لم يعد متاحا حينما اختارت الدولة أن تضيق الخناق على النشاط الأهلي بكل أشكاله توجسا من أن وراء كل مبادرة وعمل تطوعي مؤامرة خارجية وتدخل أجنبي.

 

الدولة مهمتها أن تستخدم أدوات الأمن والقانون لمجابهة الجريمة والعنف، ولكنها لا تقدر بمفردها أن تصحح فكرا منحرفا أو تقاوم تعصبا له جذور اجتماعية وثقافية عميقة. هذه مهمة المجتمع ومؤسسات الدولة المدنية. ولكن هذه المؤسسات لا يمكن أن تقوم بدورها التنموي والوقائي إذا استمرت الدولة تحاصرها وتضيق عليها مساحات العمل والتأثير.

 

وأخيرا فمن الضروري مراجعة السياسة الاقتصادية للدولة وأولويات الإنفاق العام وإعادة توجيه الاهتمام والموارد، بما يحسن من الخدمات العامة فى القرى النائية والمناطق العشوائية بدلا من استنزاف كل الطاقات والموارد المتاحة في مشروعات قومية كبرى، قد تكون ذات عوائد عظيمة فى المستقبل البعيد، ولكنها لا ترفع عن كاهل المواطنين أعباء الحياة اليومية ولا توفر للشباب فرصا للعمل ولا مجالا لتنمية المواهب والكفاءات ولا تسلحه بأدوات تعينه على مقاومة الفكر الظلامي الذي يحيط به من كل جانب.

 

 

أتمنى تطبيق القانون بكل حزم وعدل على مرتكبي جريمة «أبو قرقاص»، ولكن أتمنى أيضا أن تكون بشاعة هذه الجريمة ناقوس خطر ينبهنا إلى خطورة ترك المناخ الفكري والثقافي الراهن والاحتقان الاجتماعي على حاله، وإلا فإن الجرائم سوف تتكرر والتعصب يستمر في هدم النسيج الوطني

نقلا عن الشروق